-
جليليتي تغطُّ في نوم عميق فوق صخرة صمّاء أكل الدهر وشرب عليها, ولكنها ما زالت صامدة أمام مكائد وهجمات الأعداء وطمعهم بها وبما حولها.
جليليتي تحتضن الصخرة وكأن شيئاً يودُّ الافلات من بين يديها,تناديها: يا صخرتي الدنيوية لماذا لا تجيبيني ؟!لن أبني فوقك كنيسة أو جامع, بل ستبقين شاهدة على هذا التاريخ, الذي لم يرحم أبناءنا من تشتت وقهر واغتصاب الأرض ولقمة العيش من أفواههم وأفواه أولادهم.أُعذروني يا رموز الصمود والتحدّي, أُعذروني يا مَنْ تتجدّد فيكم الحياة يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة, أُعذروني لأني بعدتُ عنكم يوماً, أُعذروني فَرُبَّ هذا العذر أفاق ما في داخلي من جرحٍ وألم.
ثمَّ أخذت تشخص بعينيها العسليتين نحو أو صوب الجبال البعيدة وتلال بلادنا المزيَّنة بأشجارها المزهرة, نظرت وأحدقت النظر في كرم الزيتون وتنهَّدتْ من أعماق قلبها المسكين وقالت: آه يا زمن, زمان ما عُدنا نقطف حبّات الزيتونة ونتظلَّل بفيِّتها, أيام كان جدّي يعَتِّب الميجانا والعتابا ونردّ عليه بأصواتنا المزعجة,
فيضحك ويقول: أنتم جذوري" المشرشِة" في هذا الوطن الغالي, أنت يا جليليتي ستتزوجين بجليليٍّ مثلك كي تلدين أحفاداً أسوداً يحمون هذه الديار, يكدّون ويعرقون,يشْقون ولا يتنهدون مثل جدّهم, كي يعيشوا وتعيشوا أنتم بطمأنينة وهداة بال. أنظروا ما أجمل هذه الخضرة المبشرة إيانا بموسم خير وبركة.
أنظروا من حولكم تشمّون رائحة الجليلي الزكيّة التي بها جال الجليل مبشّراً بالخلاص لبني البشر.تمتَّعي يا جليليتي بمذاق الحياة الجليليّة, كما تمتَّع أبناء قانا الجليل بمذاق الماء المقدّس والذي أصبح بمذاقهم بطعم الخمرة, وهم لا يدرون مَنْ قَدَّسَ وفعل هذا.
كم كانت هذه الكلمات مؤثرة جداً وتُدخل الروح والأمل في نفس سامعها, فقد عاشها جدنّا بحلاوتها ومرارتها, فكان دائماً يشعُّ من عيْنيْه بريق ألأمل الطارد للإحباط والملل.منه كنّا نستقي ماء الحياة المستمرّة والمتشبّثة بتراب الأرض الجليليّة, التي ينبعث منها رائحة الزعتر الأخضر الذي ينمو بجوار صخورها الصامدة أمام نوائب الدهر,منها يستمدّ حياته ونموّه المستمرّ ليعطيها ثمرة لعباد الله. إنّها معادلة لا يفهمها إلا الباري -عزّ وجلّ .
كنتُ أركض مع بقية الأطفال بين شجيئرات السريس والفيجن, نشتمّ عبقها ورائحة أوراقها الزكيّة, نبحث عن شيء لنأكله, فتلوح أمام ناظرنا شجيْرة الزعرور فنتسابق الى ثمارها اليانعة نقطفها بلهفة, ثم نعود وفي "حُرْج" ملابسنا كميّة منها, نجلس تحت أشجار الزيتون المثمرة ، نأكلها ونطعم الأهل والأقارب الذين يشقون لجمع ثمار الحياة الدائمة في البيوت العامرة مدى أيام السنة.
إيه على تلك الأيام! تقول الجليليّة مع تنهيدة عميقة تخرجها من حنجرتها البيضاء الجميلة, وكأنّ حملاً كان رابضاً فوق صدرها فانزلق كما تنزلق الصخرة من فوق جبل عالٍ لتستقرّ في السهل. إغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع, فإنها تعشق هذا المكان كعشقها لحبيبها الذي تنتظره بفارغ الصّبر كي يعود إليها والى تراب جليلها الأشمّ. ولكن هذا الانتظار طال وما زالت هيَ هيَ على العهد الذي قطعته على نفسها,
لن تقترن إلا بهذا الجليليّ البعيد بالجسد القريب بالرّوح, فلا بدَّ أن يعود لأنّ هذه الجليليّة بالانتظار. فهي تتذكّر ما قال لها يوماً حين جلسا بين البرقوق وأمّ علي ببرائة الأطفال ونقاوة الأحبّاء:
جليليّة في مرابع الخُضر تنعمين
مِيلي بثناياك فالعُمر كلّه تستحقين عَبَلّين – الأراضي المقدّسة