|
اللثام عند الطوارق بين الواقع والأقاويل الأسطورية... بقلم الباحث بوده العيد لقد قرأت عن التوارق - وهم من أقدم أمم الدنيا - كتبا لابأس بها وتابعت عنهم أشرطة وثائقية متنوعة،وأنجزت حولهم بحوثا متعددة على أيام الدراسة الجامعية في مرحلة التدرج،حيث سئلت عنهم كثيرا فكنت أجيب بما توفر لدي من معلومات استقيت بعضها من الكتب وأخرى من أفواه المهتمين بهم ممن تحاورت معهم حول هذا الشعب الضارب في العراقة والأصالة والتاريخ.حتى أن هيريدوت يعترف بتأثير الأمة التارقية في الحضارة اليونانية القديمة التي استعارت ثقافتها من التوارق(1). والتوارق من السلالات التي إختُلف كثيرا في تحديد أصولها،فمنهم من ينسبهم إلى الفراعنة وآخرون نسبوهم إلى قبائل البربر،وفيهم من قال بأن الطوارق ينحدرون من قبيلة صنهاجة العربية مثل منظر علم العمران البشري ابن خلدون.لكن المتفق عليه أنهم شعب سكن الصحراء واستوطن قفارها،وتعتبر "التماهق" أو "التماشق" (التماشك) لغته الوطنية وحروف هذه اللغة تسمى التيفيناغ التي جعلت من الإيموهاغ أحد الشعوب الإفريقية التي تملك أبجدية نظيفة،يرجع وجودها الى ثلاثة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح تقريبا،كما تشهد على ذلك الكتابات والنقوش التي تمثل الصحراء وإفريقيا الشمالية(2). "إيموهاغ" كلمة تارقية تعني الرجال النبلاء ومفردها"أماهغ"،ومما يميز المجتمع الايموهاغي هو الزي شبه الموحد:القميص الفضفاض والسروال الواسع والحذاء العريض المصنوع من جلد البعير،والعمامة الكبيرة ذات اللثام الضيق حتى أصبح هذا اللثام علما على التوارق فأسماهم العرب الملثمون(3). ويرتدي الرجل التارقي مايسمى "تاجلموست" أو اللثام وهو عبارة عن قطعة قماش طويلة مستطيلة يقوم بلفها على شكل عمامة على كامل الوجه والرأس ولايترك سوى العينين لتتسنى له الرؤية ويكون مزيج من اللون الأبيض والأزرق النيلي. وقد حاول العديد من الانتروبولوجيين تفسير هذه العادة فمنهم من يرى أنه كيان يرجع إرتداءه إلى الوقاية من الجن والأرواح الشريرة،وآخرون يرون أن التارقي يلجأ لإخفاء وجهه عن طريق اللثام كي لايعرفه أعداءه،وفريق آخر فسره بأنه للوقاية من حر الشمس والزوابع الرميلة الصحرواية والبرد القارص،وقد صالوا وجالوا في تفسيراتهم هذه إلى درجة أن هناك من قدم تفسيرات غريبة ومبالغ فيها(4). وإن أكثر ما واجهني من أسئلة حول هذا المجتمع المتميز هو ما يتعلق بفكرة وضع اللثام على وجوه رجاله الزرق فغالبا ما يسألني السائل قائلا : لماذا يغطي الرجل التارقي وجهه باللثام دون بقية أفراد القبيلة ؟ فإذا ما أجبته بأن الطبيعة الصحراوية التي يعيش فيها هي التي فرضت عليه ذلك،بادرني بالقول : أنه سمع قولا غير الذي قلته له ومفاد ذلك : يحكى أن رجال التوارق ذات زمن بعيد تخلفوا عن الخروج لمواجهة عدوهم فخرجت النساء بدلا عنهم للقتال،ومنذ ذلك العهد صار التارقي يحجب وجهه من الخجل .. وقد وقع لدي ما يطابق هذا الكلام في إحدى أهم الأسفار التي أرخت للملثمين وهو كتاب: التوارق عرب الصحراء الكبرى،الذي يقول مؤلفه الدكتور محمد سعيد القشاط بأنه أقرب عمل إلى واقع التوارق وتاريخهم كٌتب عنهم حتى الآن،لأنه ولأول مرة يسمع صوت التوارق في تاريخهم وواقعهم إذ أنني كتبت هذا البحث من أفواههم ومنتجعاتهم وبين قبائلهم التي تجولت بينها منذ أكثر من ربع من الزمن(5). قلت وقع لدي فيه ما يأتي: ... فالشباب والشابات يلتقون في الأفراح وغيرها دون أن تغطي المرأة وجهها،بل على العكس فالرجل التارقي في مثل هذه اللقاءات هو الذي يغطي وجهه ويحرص على تضييف لثامه حتى لا يظهر منه غير العينين في اللقاءات التي تتواجد فيها المرأة وتقول الرواية التي تشبه الأسطورة إن سبب ذلك أن التوارق هاجمهم العدو في إحدى مخيماتهم ذات مرة وانهزم الرجال ولكن النساء لبسن العمائم وملابس الرجال وضيقن اللثام وإمتطين ظهور المهاري وطاردن العدو الذي هاله كثرتهن فترك لهن الأموال وفر هاربا،ومنذ ذلك التاريخ بدأ الرجال يتلثمون لتغطية وجوههم من عار الهزيمة و النساء يكشفن عن وجوههن إعتزاز بالنصر الذي حققنه(6). إذا سلمنا فرضا بواقعية هذه الحادثة المنبثقة من المخيال الأسطوري فهل يمكن لهذا التصور أن يجيب على أسئلتنا القادمة أو يتوافق مع المعطيات المقررة آتيا: - إذا علمنا بأن العدو قد باغت التوراق في إحدي مخيماتهم فهل كان العدو يفرق في القتل بين النساء والرجال ؟ ولنفترض أنه فعل ذلك فما من شك أنه كان يعرف تعداد ما ترك منهن هذا إن لم يقم بسبيهن جاريات عنده خصوصا في ذلك الزمن الذي كانت تجارة العبيد من أبرز سمات المجتمع الإنساني. ولا نتوقع أبدا أن تكون النساء قد اختبأن في أمكنة معينة قبل الهجوم لأن العدو هاجم التوارق في مخيماتهم ولم يحدث ذلك في ساحة حربية،وهذا ما يجعلنا نتوقع أن الهجوم قد وقع بغتة. - لنسلم مثلا بأنهن استطعن فعلا أن يقمن بالمطاردة فكيف تم لهن استجماع القوة وتنظيم الصفوف في ظل تواجد العدو الذي يقوم بجمع الغنائم من أموال وأسلحة وغيرها؟هذا العدو الذي نتوقعه ظل متيقظا متحسسا لأي مدد قد يأتي لغرمائهم من أي نقطة في منطقة الخيام. - إذا كانت الأسطورة لا تحدد لنا زمن ومكان وقوع المعركة فهذا يجعلنا نتوقع أن جماعة معينة فقط من عموم المجتمع التارقي هي التي حدث معها هذا الأمر وعلى ذلك فإنه من غير المنطقي أن يتحمل عرش التوارق* الذي يتواجد على امتداد الصحراء الكبرى ما بين حدود جمهورية مالي الشمالية الغربية مع موريتانيا إلى حدود السودان مرورا بشمال مالي وشمال النيجر وشمال تشاد وجنوب غربي ليبيا وجنوب شرقي الجزائر* قلنا من غير المنطقي أن يتحمل هذا العرش بأسره نقيصة قام بها جزء منه في إحدى المخيمات.مثلما لا يصح أن يتحمل مجتمع بأكمله أخطاء مجموعة من أفراده - كيف للنساء أن يخرجن للقتال ونحن لم نقرأ ولم نتوصل بأي معلومة تثبت أن التوارق كانوا يعلمون نسائهم الفروسية أو يدربونهم على فنون الحرب ومواجهة العدو ؟ بل وكيف استطاع النسوة أن تقمن بإرهاب العدو وقد يكتشف أمرهن إذا قمن بصيحات الهجوم ؟ - إذا تصفحنا تاريخ التوارق الحربي لوجدناهم شعبا أبيا ذا همة تطال الجبال شموخا،ويظهر ذلك في مساهمة الملثمين في التاريخ الإسلامي الكبير بما في ذلك الفتوحات في مناطق المغرب العربي والأندلس،ودورهم الجهادي في إفريقيا وفي نشرهم للإسلام في أدغال القارة السمراء(7).ولن نعدم دليلا عن أنفتهم في أقرب العصور ويتعلق الأمر على سبيل المثال بمقاومتهم الإحتلال الايطالي بليبيا والفرنسي بالجزائر،وليست الحمية والنخوة فيهم أمرا دخيلا ولا مستجدا بل هي خصيصة متأصلة فيهم تشربتها نفوسهم التي ألفت مصارعة الطبيعة قبل مصارعة وحوش الإنس.فكيف بهم يتخلفون عن المواجهة إذن ؟ وحتى لو كانوا قد فعلوها حقيقة فلنتساءل أولا عن السبب الذي دفعهم لذلك،ونحن ملزمون في محاولة الإجابة بتوقع الأسباب التي تتقارب مع شخصية التوارق وطبيعة كيانهم بالدرجة الأولى . - إذا إعتبرنا تخلف رجال الطوارق عن القتال يعود إلى ضعفهم عن مواجهة العدو فهل كانت النساء تملك القوة التي تتيح لهن ذلك ؟ وإن كن كذلك فلماذا لم يمنحنها للرجال بإعتبارهم أكثر خبرة منهن في القتال؟أم أنهن أردن الاستئثار بالمجد لوحدهن ؟ وذلك أمر مستبعد جدا،وإن لم يكن لاهذا ولا ذاك فهل يعني ذلك أنهن خرجن للإنتحار بسيوف العدو؟مادام لم تذكر الأسطورة أنهن حملن السلاح أثناء خروجهن للمطاردة، كما أننا لانتوقع أبدا إمتلاك النسوة لأي سلاح حربي إذ من الطبيعي أن يقوم العدو بمصادرة السلاح الذي كان بحوزة الرجال المهزومين. - إذا كان الرجال قد أدركوا قوة عدوهم وضعفهم عن مواجهته فتراجعوا عن قتاله فكيف سمحوا لنسائهم بالقتال؟ وهم يعلمون بأن العدو سيسبيهن ويمتهن كرامتهن ويستمتع بضعفهن؟. لذلك فإنني أكاد أجزم بأن أنفة التارقي أعظم من أن تمنح للأغراب فرصة كتلك،بل إن الرجل منهم سيضحي بأغلى ما يملك للدفاع عن عرضه وكرامته،أو يموت دون ذلك شامخ الجبهة بما لا يدع مجالا للشك في همة الشعب التارقي. وهذا مايدفعني إلى الإدلاء بهذه الاستنتاجات التي توصلت إليها في خضم البحث عن حقيقة اللثام : - من المحتمل جدا أن تكون عمامة التارقي الكبيرة ولثامه الضيق وسيلة لمواجهة مؤثرات الطبيعة القاسية من برد قارس في الشتاء ورياح ثائرة في موسم اللقاح وحرارة متعاظمة في الصيف،خصوصا وأن رجال التوارق هم الأكثر عرضة لهذه العوامل الطبيعية من خلال السفر في قواقل التجارة أو بالإبل والمواشي إلى مساحات الكلأ والماء أو الخروج للصيد أو القتال في عراء البادية،وأغلب هذه الأنشطة لا تقوم بها المرأة في مجتمع التواراق و لذلك فهي دائمة الكشف عن وجهها الذي قلما يغادر خيمتها. وإن أكثر ما يجعلنا نطمئن لطرحنا هذا هو تسمية التوارق بالرجال الزرق نظرا لكثرة إرتدائهم للون الأزرق الذي كشفت الدراسات العلمية بأنه اللون الأقل احتفاظا بالحرارة ومقاومة للبرودة وهذا يعني أن ارتدائهم له كان عن وعي وقصد إلا أن هناك رأيا آخر نميل إلى ترجيحه بالنظر إلى واقعيته في مجتمع الملثمين،ويتمثل ذلك في كون التوارق وضعوا اللثام وفق القانون الطبقي الذي يحكمهم حيث يقضي التفاوت الاجتماعي أن يتلثم الأسياد بسبعة أمتار من القماش مما يجعل حجم عمائمهم كبيرة تدل على أنهم كبراء القوم وخاصته،بينما يتلثم العبيد بأقل من ذلك حجما وقد حدد طول لثامهم بثلاثة أمتار،أما الطبقة المتوسطة عندهم فيكون لثامهم بطول خمسة أمتار،وهذا ما يدفعنا للقول بأن فكرة اللثام لدى الطوارق جاءت للتفريق الطبقي بين الناس من خلال النظر. اللثام له بعد أخلاقي ينحدر من سمو الشخصية التارقية ويتعلق الأمر بضرورة حجب اللسان والشفتان عن الأنظار بما يتناسب مع هيئة الملثمين في إلتزامهم بعدم إستعمال اللسان فيما لايليق.هذا ما فهمته من إجابة أكشام غبده أحد كهول الإيموهاغ الذي إلتقيته في خضم رحلتي الاستكشافية لصحراء تهيهاوت النائية عن مسقط رأسي بأزيد من مئتي ميل أين زودني بمعطيات مختلفة عن طبيعة الشعب التارقي. ونشير في هذا السياق الى أن اللثام عادة عربية قديمة فقد كان الحميريون يتلثمون يقول ابن عذارى المراكشي : وهم قوم ملثمون لا يكشفون وجوهم ولذلك سموهم بالملثمين وذلك سنة لهم يتوارثونها خلفا عن سلف وسبب ذلك ما قيل أن حمير كانت تتلثم لشدة الحر والبرد وتفعله الخواص منهم فكثر ذلك حتى صارت تفعله عامتهم(8). في الأخير يمكنني القول انه لابد من مراجعة التراث الأسطوري للتوارق ومحاولة مقاربته مع واقع التوارق وحقيقتهم لأن ما كتبه الآخرون على التوارق حسب الدكتور محمد سعيد القشاط وبخاصة الفرنسيين منهم فيه الكثير من المغالطات والمبالغات،ويعزو ذلك لقلة التجربة أو لعدم معرفة بالتوارق أو لمرض في نفس كاتبه وغرض يريد أن يغرسه في ذهن القارئ المحايد. وفي هذا الصدد سأعمل على إنجاز ورقة متواضعة حول الكتابة عن الطوارق سأعقد من خلالها مقارنة بين مؤلفين أعطيا للقارئ مادة ثرية عن الملثمين هما الروائي الليبي العالمي إبراهيم الكوني والكاتب الإسباني ألبرتو باثكث فيكييروا.ترقبوها في النشر القادم ضمن مساحتي في بوابة عرار الإخبارية المسماة: نافذة على النقد والأدب - نرجوا لها القبول والإفادة. الهوامش 1- إبراهيم الكوني في لقاء لقناة العربية معه ضمن برنامج نقطة نظام 2013 2- التوراق عرب الصحراء الكبرى للدكتور محمد سعيد القشاط مركز دراسات وأبحاث شؤون الصحراء ط2. 1989 ص 30 3- التوراق عرب الصحراء الكبرى،للدكتور محمد سعيد القشاط ،ص 17 4- التراث الثقافي اللامادي في التاسيلي ن ازجر،الديوان الوطني للحضيرة الثقافية للتاسيلي ن ازجر،وزارة الثقافة،2015،ص:20-21 5- التوارق عرب الصحراء الكبرى للدكتور محمد سعيد القشاط،ص 11 6- المرجع نفسه ص 89،ويذكر المؤلف انه سمع هذه القصة من شيخ تارقي من قبيلة منغساتن 7- ينظر المرجع نفسه ص 10 8- البيان المغرب في أخبارالأندلس والمغرب لابن عذارى المراكشي الجزء الرابع،دارالثقافة بيروت،ص128 الكاتب:
اسرة التحرير بتاريخ: الخميس 08-02-2018 11:27 مساء الزوار: 4478
التعليقات: 0
|