يعد يفغيني يفتوشينكو «1932 2017» من تلك الأسماء اللامعة التي شاعت في سماء الشعر الروسي، وقد حملت نصوصه هماً شعبياً وتضامناً مع الناس في محنة القمع والفقر، فقد عبر بجدارة عن الجماهير في واقعهم اليومي ومعاناتهم، وكذلك كان شعره بمثابة صوت الشباب الذين حلموا بالإصلاح الاجتماعي والسياسي والانتعاش والتحرر من الجمود العقائدي، خاصة عقب وفاة ستالين، مع عهد نيكيتا خروشوف؛ حيث راود الكثير من الروس الآمال في عصر جديد يقطع مع الماضي، وهي الفترة التي عرفت بذوبان الجليد؛ حيث انفتحت نافذة للأمل، لكنها أغلقت بواسطة المحافظون، وفي تلك الفترة توهج اسم يفتوشينكو، وصارت قصائده تلقى صدى كبيراً وسط الشباب والطلاب والعمال، وكانت أمسياته الشعرية تتابع بشغف شديد وتلهم الناس بضرورة التغيير والإقبال على الحياة.

لكن الحمولة السياسية والفكرية في شعر يفتوشينكو، لم تخف ذلك اللمعان المتأجج، والألق الجمالي، والعطرية الخاصة، والإيقاع الموسيقي، والدفق الشعري الرقيق الذي يسري مباشرة إلى القلوب، فقد كان بالفعل صاحب مفردات أنيقة، لكن قدر الشاعر في روسيا كما يقول يفتوشينكو هو أن ينتمي للناس، لنبض الحياة اليومي، للأزقة والشوارع والمقاهي، ويتفاعل مع الأحداث السياسية، فعلى الرغم من ماركسية يفتوشينكو، فإن ذلك الموقف الفكري لم يمنعه من الدعوة لضرورة الإصلاح ومقاومة الأثر الستاليني وفتح نوافذ الحرية، لكن ما يميز نصوص شاعرنا في كل الأحوال، تلك العاطفة الجياشة الملتهبة التي لا تهدأ، لقد كان شعره عاطفياً محضاً حتى في التعبير عن الأزمات السياسية والاجتماعية، ولقد شكل الالتفاف الشعبي الكبير حول يفتوشينكو، حماية له من عسف السلطات السوفيتية، فقد كان شديد الانتقاد للجمود العقائدي والتزمت الحزبي ومظاهر البيروقراطية، لكن لم يكن بمقدور السلطات أن تمسه بالسوء، فقد صار معشوق الجماهير، كما كان له صيتاً كبيراً خارج الاتحاد السوفييتي، ومن أشهر قصائده التي تفيض رقة وعذوبة تلك التي يقول فيها: «دائماً توجد يد امرأة/ دائماً توجد يد امرأة/ خفيفة وباردة/ لكي تهدئك كأخ/ بحنان وقليل من الحب».

تضامن

ومن نصوص يفتوشينكو التي سكنت وجدان الناس في كل مكان، قصيدة «الحرية لثلاث دقائق»، وهي من القصائد التي تلقاها الجمهور بمتابعة لافتة خاصة عند لحظة إلقائها لأول مرة في حشد جماهيري كبير عام 1963، وربما كان ذلك الأثر الذي تركته نسبة لارتباطها بقصة عظيمة، فهي تتحدث عن لحظة اقتحام الثوار الكوبيين لدار الإذاعة الكوبية فى عهد الدكتاتور «باتيستا»، وتوجيه نداء إلى الشعب الكوبي، استمر ثلاث دقائق فقط، أنسحب بعدها الثوار إلى معاقلهم، لذلك جاء عنوان القصيدة ليعبر عن عظمة تلك الدقائق المعدودات، وهي بمثابة تضامن مع الشعب الكوبي، وقد ألقاها يفتوشينكو في موسكو، في مناسبة مهرجان «الفيلم الكوبي»، وقبيل عرض أحد الأفلام، دخل إلى الجمهور وذكر لهم بأنه سيلقي عليهم قصيدة لم تنشر بعد، وبعد أن انتهى اندفع الناس بشكل تلقائي نحو المسرح يلقون بالورود والأزهار انبهاراً بالقصيدة ومضامينها الإنسانية والثورية، وهو الأمر الذي عزز بالفعل من شعبية يفتوشينكو ليس على مستوى الاتحاد السوفييتي فقط؛ بل كل العالم، نظراً لما يحمله النص من روح متضامنة مع نضال الشعوب.

وقصيدة «الحرية لثلاث دقائق»، هي سرد شاعر لحكاية يلتقي فيها الواقع بخيال المبدع، وتدفق وجداني إنساني شفيف، يحمل صوراً ومشاهد متعددة، ويفيض بالحب وقيم الخير والجمال، فهو يحكي عن البطل الكوبي «خوسيه انطونيو أتشيفاليري»، وقد كان يحمل اسماً مستعاراً هو «مانسانا»، ويعني بالإسبانية «التفاح»، وقد ترجمها إلى العربية الكاتب والمترجم العراقي د. جودت هوشيار، ويشير النص إلى عشرات الشباب الكوبي الذي كان يتوق إلى الحرية والانعتاق من الشمولية، فهو يريد أن يعيش حياة عادية ويمارس هوايته وإنسانيته وشغفه بالحياة، وذلك ما يصوره يفتوشينكو في مطلع القصيدة الذي يقول فيها: «كان شاب اسمه مانسانا/ عيناه صافيتان كينبوع/ وروحه صاخبة كسطح مأهول/ يعج بالحمام والجيتارات واللوحات التي لم تتم/ كان يحب كيزان الذرة/

والبيسبول/ والأطفال/ والأشجار/ والطيور/ وعيني فتاته المعجزتين/ حين تشرقان من تحت أهدابها/ وتلتقيان عفوا بعينيه»

ثم تنتقل القصيدة في منعطف بديع نحو تصوير لحظة التمرد عند «مانسانا»، وكيف اندلع غضبه ثورة رفعت رايات الحلم الإنساني النبيل بالعيش الكريم، والقصيدة ترسم بالكلمات لوحة بديعة لواقع المجتمع الكوبي، وتغوص في النفوس لتصور ذلك الرفض العظيم الذي أنتج الثورة: «كان مانسانا أشبه بطفل/

لكن نفوراً صارماً كان يومض في عينيه/ عندما يرى النفاق والكذب/ كان الكذب في كوبا يرتدي أفخر الثياب/ ويذرع ردهات القصور/ ويجلس في سيارة الرئيس/ مضطجعاً كأنه في منزله/ وينشر الهراء في جميع الصحف/ ويبدأ نهاره بالصياح/ ومن وقت لآخر/ يستبدل بالصياح الروك آند رول/ وينفخ في الراديو الأبواق/ وقرر الشاب الصغير مانسانا/ أن يستولي هو وأصدقاؤه على محطة الإذاعة/ لا من أجل المجد/ وإنما من أجل الجميع»

تحمل القصيدة خلاصة حافلة بالمعاني، فالشاعر يرى بضرورة، أن تصبح قصة مانسانا قدوة للناس في كل مكان لأجل أن تعم قيم الحرية والخير في وجه الكبت والشر.

المصدر: الخليج