وتوجه المؤلفة آن برونسويك تحية إلى الشعب الفلسطيني، وتأييدًا لحقه في الحرية والاستقلال، قائلة "سوف أواصل، ما حييت، مساندة ودعم حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. إن الحق في مقاومة القمع والاضطهاد مكفول في الإعلان العالمي لحقوق الانسان".
وعن رحلتها، تقول المؤلفة "أتيت لأرى ما تفعله الدولة اليهودية باسم كل يهود العالم"، وتضيف "لم آتِ إلى هنا بدافع الصداقة للفلسطينيين الذين لم أكن أعرفهم، ولا بتأثير تعاطفي مع العالم العربي الذي أجهل عنه وعن لغته كل شيء، ولا بتأثير تضامن مع حركة تحرر وطني. ذلك أن كل المطالب والادعاءات الوطنية بالنسبة لي غريبة، أو على الأقل أشعر حيالها باللامبالاة. أتيت لأرى ما تفعله الدولة اليهودية باسم كل يهود العالم وضمنهم أنا. أن أصغي إلى الرواية الأخرى للتاريخ. كنت في حاجة إلى ذاك على المستوى الشخصي كي أتخلص من عماي الخاص. لا يجوز أن يكون جهلي ذريعة أو عذرا".
فيما كتب المترجم عبد المنعم الشنتوف مقدمة لكتاب "مرحبا بكم في فلسطين"، يقول فيها "مثلت فلسطين منذ النكبة، ومرورا بالمجازر وحملات الإبادة والتهجير والحروب العربية الإسرائيلية، إحدى جبهات النضال الرئيسة التي وحدت الذات العربية من المحيط الى الخليج، وأفسحت المجال أمام أنماط متعددة ومتمايزة من التعبير السياسي والثقافي التي أسهمت بطريقة فعالة في خلق ما يمكن وصفه بـ"متخيل" عربي في خصوص فلسطين".
ويرى الشنتوف، أنه يبدو من الصعب أن تقترب من السمات المميزة لهذا المتخيَّل دون أن تتذكر "عز الدين القسام، سناء محيدلي، جورج حبش، خليل الوزير، دلال المغربي، غسان كنفاني، سميح القاسم، محمود درويش، ميشيل خليفي، ناجي العلي، فاتح المدرّس، فرقة العاشقين وآخرين"، مبينا أنه رغم خصوبة هذا المتخيل وتأثيره الذي لا يُنكر، يتحتم الإقرار في ترسيخ صورة فلسطين في الأذهان. لكن الثابت في هذا الخصوص أن هذا "المتخيل" قد تخللته جرعات قوية من الاستيهام وسطوة الصور النمطية المتعالية على إكراهات الواقع والشرط التاريخي.
ويوضح المترجم، أن معرفة الكثير بفلسطين لم تتحقق إلا من هذا التراكم الكبير من النصوص والرسوم والأغاني والحكايات التي تختلط فيها التراجيديا بقيم التضحية والشهادة والفداء. ولم يكن مستغربا والحالة هذه أن تتقلص مساحة المعاينة والمعايشة والحضور في "اللحظة التاريخية"، بما تستلزمه من استشراف رؤية متكاملة نسبيا لما يجري في الواقع، معترفا أنه لم يتخلص، من تأثير هذا "المتخيل" في سياق تفاعله مع صورة فلسطين.
ويقول الشنتوف، إن كتاب "مرحبا بكم في فلسطين"، عندما صدر في العام 2004 عن دار "آكت سود" في باريس، تحقق عندي الوعي بإمكان صوغ صورة أخرى عن فلسطين مغايرة لما استقر في ذهني إلى حدود تلك اللحظة، لافتا إلى أن الكتاب يندرج ضمن "أدب الرحلات"، وهو محصلة رحلتين قامت بهما الكاتبة والصحفية الفرنسية "آن برونسويك"، ما بين العامين 2004 و2010. استغرقت الرحلة الأولى أربعة أشهر، وتحديدا من تشرين الأول (أكتوبر) 2003 إلى كانون الثاني (يناير) 2004. وقد رافق الكاتبة في هذه الرحلة فريق سينمائي؛ وهو ما يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الغاية كانت تتمثل في التوثيق وصوغ شهادة.
ويشير المترجم إلى أن المؤلفة شددت في أكثر من موضع في هذا الكتاب، على أنها لم تكن موفدة من أي جهة، وأنها تصرفت بحرية كاملة لتقديم صورة واضحة للرأي العام الغربي، خصوصا ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإبراز معاناة الإنسان الفلسطيني بمعزل عن الصور النمطية المألوفة في هذا الصدد. وبعد قراءتي المتأنية وما يزخر به الكتاب من تفاصيل لها تعلق برام الله وأريحا ونابلس وجنين وطولكرم والقدس ويافا والمخيمات المبثوثة هنا وهناك، والعشرات من المعابر الأمنية وجدار الفصل العنصري، علاوة على سيل من الحكايات والمصائر الإنسانية المرتبطة تحديدا بشروط العيش في ظل الاحتلال، يمكن القول إن الكاتبة قد أفلحت في خلخلة الصور النمطية السائدة في خصوص الفلسطيني.
ويقول الشنتوف، إن قارئ هذا الكتاب سيلاحظ حرص الكاتبة على إبراز الوجه الفاشستي للكيان الصهيوني، وقد ساقت الكاتبة في هذا الخصوص حكايات تنضح بالمأساوية للمعاناة الفلسطينية مع الحواجز الأمنية. وتبقى الصورة الأقوى لهذا المنزع متمثلة في شهادتها الخاصة بقُطعان المستوطنين وسلوكاتهم الاستفزازية والعدوانية حيال الفلسطينيين، علاوة على زيارتها ورش بناء جدار الفصل العنصري التي حولت حياة الفلسطينيين في الضواحي المحيطة بمدينة القدس والبلدات المجاورة إلى جحيم حقيقي.
ويرى المترجم، أن الكاتبة اشتهرت بدفاعها عن حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في استعادة حقوقه والعيش بكرامة في إطار دولة متحررة من سطوة الاحتلال.
وكان كتاب "مرحبا بكم في فلسطين" تعبيرا قويا عن هذا الالتزام ذي العمق الأنسي الذي لا تخطئه العين، مبينا أن عودة الكاتبة إلى الأراضي الفلسطينية العام 2010 مناسبة لاستكشاف وتفقد ما صارت إليه الأمور بعد انصرام ست سنوات على رحلتها الأولى. وقد رسمت الكاتبة جدارية قاتمة تميزت، بالإضافة إلى الرحيل المأساوي لياسر عرفات، بتدهور أوضاع الشعب الفلسطيني وتراجع فرص استشراف السلام العادل واستفحال شراسة الاستيطان.
واعتبر الشنتوف ترجمة هذه اليوميات إلى اللغة العربية إسهاما في تخصيب الذاكرة الفلسطينية، ومقاومة إرادة المحو والنسيان، وإتاحة الفرصة للذات العربية للإحاطة علما بتفاصيل وحكايات ومصائر إنسانية أصبحت الآن جزءا من تاريخ نكبة "الشعب الفلسطيني" التي لم تنته بعد، حيث تشكل هذه اليوميات إضافة في الحقل التداولي العربي، بالإضافة إلى ما سبق ذكره، وسيلة لكشف القناع عن مواكب الزيف والنفاق والتضليل التي ترعاها الآلة الإعلامية الصهيونية والتي تسعى إلى الإيهام بتعايش لا وجود له إلا في أذهان من يروجون له.
وخلص المترجم إلى أن الكاتبة اعتمدت في اليوميات لغة سردية رشيقة تحتفي بتفاصيل المكان وحركة الشخوص داخله، وتتلمس سبيلها إلى قرائها المفترضين في سهولة ويسر. وإذا كانت فلسطين هي الحكاية الإطار لهاته اليوميات، فإن الحكايات الأخرى التي تتناسل على امتداد السرد تتيح للقارئ ما يشبه جدارية مثيرة تضج بالألوان والروائح والشخوص.
وقد كتبت المؤلفة آن برونسويك مقدمة للترجمة العربية، قالت فيها "أقمتُ في رام الله، وتحديدًا في وسط المدينة، داخل شقة مريحة استأجرتُها وأتقاسمها -حين تسمح الظروف- مع طلبة وأصدقاء عابرين، وقد جئت إلى رام الله، من دون أن أكون موفدة من شخص أو جريدة أو جمعية أو إدارة عمومية. جئت بكامل حريتي؛ وهو ما يشكل في هذا السياق استثناءً. ذلك أن كل الأجانب الموجودين هنا يرتبطون بطريقة أو بأخرى بمهمة من هذا القبيل. كانت هذه الحرية ضرورية وأساسية بالنسبة لي كي أقوم بعملي بوصفي كاتبة. وقد تمكنت بهذا الصنيع وهذا الاختيار من أن أتحمل مسؤولية منزعي الذاتي في غمرة هذا اللقاء بالفلسطينيين الذين بدوا لي بصورة مغايرة ومختلفة عما كنت أنتظره وأتوقعه".
وخلصت إلى أنها تعتبر هذه اليوميات، بعد انصرام عقدين على كتابتها، وتبخر الآمال المعقودة عليها، وثيقة تاريخية مشبعة بعمق إنسي لا يخفى على القارئ. وأعترف في هذا المعرض بأن أكثر ما غنمته من هذه الإقامة، بالإضافة إلى المعاينة الحسية والملموسة لمعاناة وآلام الفلسطينيين في ظل الاحتلال، يتمثل في القدرة الكبيرة التي يتوفر عليها الفلسطيني على احتضان ومحبة الآخر والغريب.. إنه شعب يستحق "الحياة".
ويذكر أن المؤلفة آن برونسويك ولدت العام 1951 في العاصمة الفرنسية باريس. غادر أبوها الذي كان يعمل طبيبا ألمانيا العام 1930، تابعت دراستها في اللسانيات والآداب في المدرسة العليا وجامعة نانطير الباريسية. مارست التدريس لفترة قبل أن تتفرغ للصحافة والكتابة الأدبية، وقد صدر لها العديد من المؤلفات منها "في مقاومة النسيان 2000، ماذا تفعل هناك؟ 2001، مرحبا بكم في فلسطين 2004، سيبيريا: رحلة في بلاد النساء 2006، المياه الصقيعية لقناة بيلومور 2009، وأسفار مع الغائبة 2014".