|
محمد حنون* لا توجد مذبحة في التاريخ الحديث تم توثيقها بالصوت والصورة، كما حدث في مذبحة غزة. آلاف الصور، ترصد بدقة بشاعة ما يفعله الاحتلال الصهيوني بحق المدنيين يوميا: أطفال تُنتشل أشلاؤهم من تحت الركام، نساء يصرخن بأسماء أبنائهن، مستشفيات تُقصف، مساجد وكنائس ومدارس تتحوّل إلى مقابر جماعية. كل شيء موثَّق، منشور، مُتاح للعالم بأسره ولكن العالم لا يتحرك. لو حدث واحد بالمائة فقط من هذا الزخم التوثيقي المصوَّر، الذي نراه في غزة، في أي بقعة أخرى من الأرض، لتحرّك العالم بأسره؛ المؤسسات، الحكومات، الشعوب، والضمائر. لكن لأن الضحية فلسطينية، والمجرم صهيوني مدعوم من «المنظومة الغربية»، فإن كل هذه الصور، بكل وضوحها وعمقها، تُقابل بصمت مريب، أو بتبرير بائس، أو بتشكيك فجّ. إنها واحدة من المجازر القليلة في التاريخ التي لا تحتمل وجهتي نظر، لا تحتمل تأويلاً أو نقاشاً في مصداقيتها. فكل الأدلة حاضرة، لا تحتاج إلى تفسير أو تنقيب. ومع ذلك، فإن حجم التخاذل الدولي، والإنكار الإعلامي، يشي بأن كل هذه الصور وكأنها لم تُلتقط. كأن المذبحة لم تقع، وكأن الضحايا ليسوا بشراً، وكأن الصورة قد هُزمت أمام الكلمة الزائفة. حين وقعت ما يُسمى بـ»المحرقة النازية»، لم يكن هناك توثيق كهذا، ولا حتى عُشر الواحد بالمئة مما يتوفر اليوم عن غزة. لم نرَ صوراً، ولا مشاهد مباشرة، ومع ذلك تحرك العالم، واصطفّت الجيوش، وأُدينت أمة بأكملها على أساس رواية لم توثّق، لكنها لاقت تعاطفاً ما زال يُترجم سياسياً ومالياً وثقافياً حتى اليوم. فهل أصبحت الكلمة الزائفة تساوي ألف صورة؟ هل أصبح واضحاً بأن الإعلام في العالم، وخاصة الإعلام المتواطئ مع المذبحة، يصنع الحقيقة، لا ينقلها؟ مذبحة غزة تكشف، ليس فقط إجرام الاحتلال، بل هشاشة القيم التي يدّعيها الغرب. سقط القناع عن إنسانيّتهم الزائفة، حين أصبح الدم الفلسطيني أقلّ قيمة من نظيره الأوروبي أو الأوكراني أو «الإسرائيلي». وهناك من يجرؤ وحتى هذه اللحظة أن يقول: هل يمكننا تسمية ما يحدث في غزة «إبادة»؟ سؤال يطرح على الرغم من الزخم الفوتوغرافي لكل ما يحدث هناك! الفضيحة الأكبر ليست في قصف البيوت فقط، أو في تمزيق الأجساد، بل في صمت العالم أمام هذا الكم من الوثائق البصرية. في تجاهل المؤسسات الدولية، وتواطؤ الإعلام «الحر»، وتخاذل من يُفترض أنهم رموز الثقافة والفن والضمير. إن هذه المذبحة لا تفضح الاحتلال وحده، بل تفضح المعايير، وتُسقط أسطورة «الصورة لا تكذب». في المقابل، استطاعت بضع كلمات كاذبة، مثل ادعاء ذبح الأطفال أو اغتصاب النساء في أكتوبر، أن تشعل الرأي العام العالمي، دون صورة واحدة تثبت ذلك، رغم أن المنطقة المستهدفة كانت مليئة بكاميرات المراقبة المتطورة. فأي إعلام هذا الذي يرفع الكذبة إلى مقام الحقيقة، ويُسقط الحقيقة الموثقة بملايين الصور إلى قاع التجاهل والتزييف حتى؟ إنها لحظة فاصلة في تاريخ الكلمة والصورة، لحظة انكشاف أخلاقي، لا بد أن يُسجّل كعار أبدي في وجه الحضارة التي تدّعي احترام الإنسان، وتدعي السعي وراء الحقيقة في الإعلام. حين تُكسر الصورة وتُنتصر الأكذوبة، تتهاوى عشرات المقولات والمفاهيم الإعلامية في الغرب. ناهيك عن السقوط الإنساني والأخلاقي للأنظمة الغربية، بكل روافعها الإعلامية والإنسانية. يقال إن الصورة لا تكذب. لكن ما نشهده اليوم في غزة يكاد يكون نقيضًا تامًا لهذه المقولة. الصورة تقول كل شيء: الحقيقة في أوضح تجلياتها، الموت وهو يُمارس على الهواء، الطفولة وهي تُسحق، العائلات وهي تُباد. ومع ذلك، الصورة عاجزة. ليست لأنها ضعيفة، بل لأن من يشاهدها لا يريد أن يرى، ومن يملك القرار يختار أن يتجاهل. العالم الغربي الذي يتحرّك لقضايا أخرى ويدعي بأن روافعه إنسانية، بما في ذلك تجييش مؤسساته الإعلامية لذلك، ولكن لا يتحرك أمام صور آلاف الأطفال الفلسطينيين المدفونين تحت البيوت، أو المحترقين في أحضان أمهاتهم، يثبت بأنه عالم كاذب، يرى الصور بحسب مصالحه. فهل المسألة في «الصورة» أم في هوية الضحية؟ أليس هذا هو التعريف الحرفي لعنصرية المعايير؟ الحقائق اليوم تُعرض بالمباشر، ليس من خلال تقارير وكالات الأنباء فقط، بل من خلال هواتف الناس، الكاميرات الشخصية، البث المباشر، الشهود العيان. كل بيت في غزة صار مرصدًا. كل أم ثكلى صارت مراسلة، كل طفل يصرخ صار ناقلًا للحقيقة. ومع ذلك، يخرج علينا الإعلام الغربي بلغة باردة: «نزاع»، «اشتباك»، «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وكأننا أمام رواية رمادية قابلة للتأويل. ما يحدث في غزة لا يُغطّى، بل يُدفن. الإعلام لا يفضح القاتل، بل يُعيد تلميعه ويُلبسه ثوبَ الضحية، فيما يداه تقطران بالدم. في أقسى مجازر العصر، يُعامل الضحية كمشتبه به، ويُعامل المجرم كشخص «يواجه تهديدًا وجوديًّا». وهذه جريمة مزدوجة: جريمة تُرتكب على الأرض، وأخرى تُرتكب في السرد. المؤسسات الدولية، من مجلس الأمن إلى محكمة الجنايات، ومنظمات حقوق الإنسان، والمؤسسات الإعلامية، جميعها شاهدة. لكنّ شهادتها تُصاغ بلغة مائعة، توزّع اللوم بالتساوي، وتخشى أن تُسمّي الأمور بأسمائها. لماذا؟ لأن القاتل هو من يمول هذه المؤسسات، ويوجه خطابها. كل ما رُوّج عن «الضمير الإنساني» و»العدالة الدولية» و» قداسة الصحافة»، يبدو اليوم ككذبة كبيرة. فحين يكون الضحية عربيًّا، فلسطينيًّا، ومُسلماً، تُلغى المفردات، وتُغسل الأيدي، ويُترك الشعب الفلسطيني يواجه مصيره منفردًا، حتى وإن كانت الكاميرا شاهدة، والعالم بأسره يشاهد بثّ الجريمة على الهواء مباشرة. فأين ذهبت تلك القيم التي طالما تبجّحوا بها؟ أين الديمقراطية، وحرية الصحافة، وحق الشعوب في تقرير المصير؟ أليس من المثير للسخرية أن إعلام العالم الغربي يحرك أقلامه ويشغل مطابعه ومواقعه من أجل أي قضية في العالم، إلا قضية فلسطين، ويصمت أمام إبادة جماعية موثقة، فقط لأن مرتكبها هو (إسرائيل)؟ معركة الوعي وكسر الهيمنة: غزة لم تُهزم. ليس لأنها تملك سلاحًا متفوقًا، بل لأنها تملك الحقيقة. وكل صورة تُنشر من هناك، هي صفعة على وجه الإعلام العالمي وعلى وجه المجتمعات الغربية. كل صرخة، كل دمعة، كل جنازة، تفضح مؤسسات تدّعي حماية «الإنسان»، بينما لا ترى الإنسان حين يكون فلسطينيًّا، وتفضح صمت كل المؤسسات الإعلامية وكل الأسماء الإعلامية في العالم. لو كان الصمت هو كل ما يرتكبه هؤلاء الأفراد وتلك المؤسسات، لكان أقل انحطاطاً، ولكنهم يرتكبون أيضاً التزييف وفرض سردية كاذبة ومخالفة لما هو موثق فوتوغرافيا! لكن الرهان الحقيقي اليوم ليس على عواصم القرار، بل على الشعوب، على الأحرار الذين رفضوا أن يُخدعوا مجددًا. الصورة اليوم لم تُهزم بالكامل، بل تمّت محاصرتها. ويبقى السؤال: هل نملك نحن أن نُعيد للصورة معناها؟ أن نجعلها تهزم الكذبة؟ أن نفرض روايتنا، رواية الصورة الفوتوغرافية بجلالها، على من يحاول طمسها؟ المعركة طويلة، ولكن ما جرى ويجري في غزة ليس مجرد إبادة، بل لحظة انكشاف تاريخية. غزة اليوم تُحاكم الإعلام، وتُحاكم الكلمة، وتفضح الازدواجية التي بُني عليها النظام الدولي. إنها ليست فقط ساحة حرب، بل مرآة للعالم وما تعكسه هذه المرآة، قبيح للغاية. ثمة مجزرة للصحافة في غزة، والعدسة في مواجهة المدفع. عدد الصحفيين والصحفيات، والمصورين والمصورات، الذين قُتلوا في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى أحدث التقارير المتاحة، تجاوز 232 شهيدًا وشهيدة، وهو رقم يفوق بكثير إجمالي من قُتلوا في صفوف الصحافة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحرب فيتنام، والحرب في أوكرانيا مجتمعة. هذه ليست مجرد أرقام. إنها قافلة من الأصوات التي أُسكتت عمدًا، وكل فرد فيها كان يحمل كاميرا، وليس بندقية. كانوا يحاولون توثيق الحقيقة، لكنّهم دفعوا الثمن بأرواحهم. خوذات الصحافة الزرقاء، التي كانت تُحترم يومًا كرمز للحماية ويتم الدفاع عنها، حين تكون في أي مكان في العالم، أصبحت في غزة ملطّخة بالدم، تُكدّس على شكل جثث صامتة، وتفضح بذلك بشاعة الجريمة التي لا تستثني أحدًا، حتى من ينقلها. الاستهداف الممنهج لهؤلاء الإعلاميين يؤكد أن ما يجري في غزة ليس فقط حربًا على البشر، بل حربٌ على الصورة، ما يعني الحرب على الحقيقة. ما يحدث هناك يعيد تعريف معنى «الصحافة الميدانية»، ويحوّلها من مهنة نقل الواقع إلى مهنة خطر وجودي. هذه الأرقام أكثر من كافية لإدانة آلة القتل، ليس فقط في بعدها العسكري، بل في محاولتها القضاء على من يُوثّق ويشهد في فلسطين وفي غزة تحديدا. وفقًا لتقرير صادر عن مشروع «تكاليف الحرب» التابع لمعهد واتسون للشؤون الدولية والعامة في جامعة براون، فإن الحرب في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 قد أسفرت عن مقتل أكثر من 232 صحفيًا وعاملًا في مجال الإعلام. هذا العدد يتجاوز إجمالي الصحفيين الذين قُتلوا منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، مرورا بحرب فيتنام، وأفغانستان والعراق وإيران، وحتى حرب روسيا وأوكرانيا، وغيرها من الحروب مجتمعة. كما أشارت تقارير أخرى إلى أن أكثر من 75% من الصحفيين الذين قُتلوا في عام 2023 كانوا فلسطينيين، قُتلوا في الحرب على غزة. تُنقل مجزرة غزة بالصوت والصورة، لحظة بلحظة، ويبقى العالم باردًا، متواطئًا، مرتبكًا في مفرداته. الإعلام الغربي يتلكأ، ويبحث عن «توازن»، ويساوي بين القاتل والضحية، وكأن الضحية لا تستحق الدعم إن لم تكن في المعسكر الصحيح. فهل هُزمت الصورة؟ أم أننا نعيش زمنًا صارت فيه الحقيقة أضعف من الرواية المدعومة؟ هل أصبحت الإنسانية مجرّد خطاب نخبوي يُستخدم فقط حين يخدم المصالح؟ غزة، اليوم، لا تكشف فقط عن جريمة، بل عن خلل عميق في بنية الأخلاق الدولية، في صدق الإعلام، في عدالة المؤسسات، وفي إنسانية الإنسان. وهذا ليس خطابًا عاطفيًا. بل تساؤل حقيقي: ما قيمة كل هذا التوثيق الفوتوغرافي والمرئي إذا لم يعد قادرًا على تحريك ضمير العالم؟ ربما لم تُهزم الصورة بعد، لكنها بالتأكيد تُقاتل وحيدة في فلسطين، وقد خذلها العالم، ومن خلفها شعب، لا يملك شيئًا سوى أن يواصل توثيق موته، أحزانه، أوجاعه، وصموده الأسطوري والموجع، صورةً بعد صورة، كي لا تُنسى الحقيقة، ولكي تنتصر حتماً، ولو بعد حين. *فوتوغرافي وكاتب فلسطيني أردني - عمَّان جريدة الدستور الاردنية الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 13-06-2025 11:26 مساء
الزوار: 45 التعليقات: 0
|