موسى إبراهيم أبو رياش في مجموعته القصصية «جرائم أدبية»، يُصوِّبُ هارون الصبيحي سهام نقده اللاذعة والقاسية لكثير من الممارسات الاجتماعية والأدبية وغيرها، مستخدمًا لغة واضحة لا مواربة ولا مداهنة فيها. وقد حظي المهمشون بنصيب وافر من قصص المجموعة، ولا عجب، فهم أغلبية المجتمع، ممن يعيشون على هامش الحياة، يلوكون آلامهم ومعاناتهم بصمت، لا يلتفت لهم أحد، بل لا يشعر بهم أحد؛ فهم مجرد زوائد أو أرقام لا قيمة لها، وإن رآهم أحد عدّهم عبئًا على الحياة. ولا يقتصر المهمشون على الطبقة الفقيرة وحدها، بل ثمة مهمشون في كل طبقة، فمن لا صوت له ولا قرار مُهمَّش، ومن لا يُحسب له أي حساب مُهمَّش. وهناك فاعلون في مكان ومهمَّشون في غيره لا أثر لهم ولا تأثير. في قصة «المواطن صالح»، يرسم الصبيحي مأساة الإنسان البسيط الذي يحلم بأن يكون له «صوت مسموع» و«بيت وسيارة بلا دائنين»؛ هذه ليست أحلام رفاهية، بل أساسيات الحد الأدنى من الحياة الكريمة. يقول الراوي عن المواطن صالح: «حلم أنّ صوته مسموع، حلم أنّه يتكلم وجمع من الناس يصغي لما يقوله باهتمام، ثم يصفق له تصفيقًا حارًا! هذا الحلم بعيد المنال، لكنَّ حلمه الثاني تجاوز ذلك بكثير، صـــالح في تلك الليلة شـــطح بحلمه وخياله أكثر بكثير من كبار الشـــعراء والأدباء، لقد كان حلمه مذهلًا، حلم أنّه مواطن شـريف يمتلك بيتًا وسـيارة ولا دائنون يلاحقونه!». لكنَّ الحلم يبقى حلمًا شبه مستحيل، وأي محاولة للوصول إليه تنكسر أمام قسوة الواقع. المرأة المهمّشة تطرح قصتا «يوم المرأة» و«عيد الأم» نقدًا لاذعًا للفئات والهيئات التي تتغنّى بحقوق المرأة، بينما تمارس أقسى أشكال الاستغلال والتهميش ضد العاملات. ففي قصة «يوم المرأة»، أُرهقت الخادمة في التحضير للاحتفال وخدمة الضيوف، ومن ثم غسيل الأطباق وتنظيف المكان وترتيبه، وقبيل الفجر «عـادت الخـادمـة إلى غرفتهـا الصـــغيرة بجـانـب غرفـة كلـب الحراسة!». فهؤلاء لا يرون الخادمة امرأة تستحق الاحتفال أو التكريم أو الاحترام ابتداءً، ومكانتها ككلب الحراسة أو أقل. في قصة «عيد الأم»، وبعد يومٍ شاق من خدمة ضيوف السيدة، تُمنع الخادمة من النوم حتى تنظف وترتب البيت من آثار الاحتفال وعبث الأطفال. وبعد أن أنهت عملها «دخلت الخادمة إلى غرفتها الصغيرة وهي تكاد تسقط على الأرض من شدة تعبها، حدّقت بصورة أولادها الملصقة على الجدار... ودخلت في نوبة بكاء صامت». إنها مأساة تتكرر خلف الأبواب المغلقة، حيث يتجمّل الظلم بغطاء الاحتفال، ويمزق الواقع المر زيف الشعارات البراقة وتحيزاتها، وكأنَّ الخادمة ليست أمًا ولا حق لها في الأمومة أو حتى الحياة الإنسانية الكريمة. لقطات سريعة يعتمد الصبيحي في عدد من قصصه على اللقطة الخاطفة أو المشهد القصير ليعبر عن عالم كامل. ففي قصة «تبادل حياة»، يُقدَّم مشهدًا صامتًا يعكس مفارقة طبقية حادة: «الطفل الجالس أمام البسطة الخشبية يرتجف من البرد، لكنه صرخ بالكلب: الجو صقيع. فوت رأسك بلاش تمرض!». طفل لا يملك ما يحميه من البرد، لكنه يتعاطف بصدق وعفوية مع كلب داخل سيارة فارهة، في مشهد ساخر دامٍ، يوجه صفعة مدوية لضميرنا الإنساني الميت. يتجمع الناس في قصة «قِيمة» حول كلب أنيق لالتقاط الصور بينما: «على مقربة منهم كان ألبرت أينشتاين يجلس وحيدًا!». المفارقة هنا لا تستهدف الجهل وحده، بل ذلك الهوس السطحي بالمظاهر الذي يُقصي كل قيمة حقيقية، و«الكلب» هنا و«أينشتاين» رمزان على غلبة التفاهة والسفاهة والترهات وسفاسف الأمور وتصدرها للمشهد العام مقابل تجاهل وتهميش أصحاب العلم والفكر والإنجاز الحقيقي. وعي المشردين تُظهر قصة «أحجار» أنّ المهمّش قد يكون مثقفًا، كاتبًا، مسجونًا سياسيًا سابقًا، فقد رأى الكاتب «رجلًا يرتدي ملابس رثة جالســًا على الرصــيف، يبدو من هيئته متسـولًا أو مشـردًا»، وبما أنَّ جيوبه خاوية، فقد أهدى الكاتب مجموعته القصصية للمتشرد. هذه اللفتة فتحت باب حوار دسم بين الرجلين، قال فيه الرجل المتشرد: «الكتابة قد تجعلك تجلس بجانبي يومًا ما». في هذه القصة، يُقلب ميزان الإدراك. من نظنه متسوّلًا هو في الحقيقة صاحب فكر، دفع ثمن قلمه الحر، ليكشف هشاشة أحكامنا المسبقة، وفي ذات الوقت أنَّ الأدب لا يُطعم خبزًا ولا يُحدث أثرًا أو يغيّر شيئًا، بل قد يكون خسرانًا ووبالًا على صاحبه في مجتمعات ما زالت تعيش على هامش الحياة. في قصة «ابن حرام»، نسمع صرخة من قلب الهامش من «ابن حرام» يرتجف بردًا على الرصيف بعد أن ضحك وصرخ وشتم نصف سكان الأرض: «أولاد الحلال لم يتركوا شيئًا لأولاد الحرام». في لحظة تمرّد على السلطة الرمزية لما يسمى «الشرعية»، يصرخ المهمّش بوجع من نُفي من كل شيء، حتى من الاحتمال، وما جدوى «الشرعية» و«القانون» إذا كانا يسمحان «لابن الحلال» أن يمارس إجرامه وفساده وتجاوزه مُحصنًا من كل مساءلة أو ملاحقة؟! العبثية الرمزية في قصة «الوردة»، تموت بائعة ورد صغيرة بعد خمس خطوات من النداء. لا تفسير، لا محاولة للإنقاذ، فقط: «ربما كانت جائعة أو مريضة...» لكن الرائحة بقيت، رمزًا لذكرى الضعفاء والمهمشين الذين لا يراهم أحد، ولكن أرواحهم تترك أثرًا لا يُمحى. من أكثر القصص سوداوية وسخرية قصة «تأثير»، حيث يُحوَّل الفقير إلى مادة أدبية: «عندما جعلته بطلًا لروايتي فزت بجائزة أدبية كبرى... أما هو فقد بقي لا أحد يكلمه». إنها مرآة قاسية للأدب ذاته، حين يتحوّل الفقير إلى «أثر فني» يُستثمر فيه ولا يُنقذ. وأمثال ذلك كثير في المجتمع؛ فبعض القائمين على شؤون الفقراء يصبحون أغنياء، بينما يبقى الفقراء على فقرهم، بل ويزدادون فقرًا. ومن يترأسون هيئات التطوير تتضخم حساباتهم البنكية، وتتراجع البلدان. وغير ذلك كثير. وبعد؛؛؛ في مجموعته «جرائم أدبية»، الصادرة في عمّان عن دار الخليج عام 2025، لا يتعامل هارون الصبيحي مع القصص كوسيلة للتسلية، بل كأداة للمساءلة والإدانة، ومنصة للأصوات الصامتة، تنحاز للإنسان وحقه في الحياة والعيش الكريم. لا تجد في هذه الباقة المختارة من القصص بطلًا خارقًا، بل الإنسان في هشاشته، في قوته الصامتة، في حاجته إلى أن يُرى ويُحترم. إنها قصص عن المهمّشين والمحرومين والتائهين في دروب الحياة، كُتبت معهم أو بأيديهم، كأنَّ الراوي نفسه جلس بجانبهم على الرصيف وكتب، لا من فوق، بل من داخل الدائرة التي تنداح وتتسع.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 11-04-2025 12:05 صباحا
الزوار: 37 التعليقات: 0