في انتظار الأمل والغد المشرق يُصدِر الكاتب طارق عوده كتابه الأول «في انتظار الضوء.. نصوص وأشياء أخرى»، وهو كتاب كوكتيلي يجمع بين القصة والومضة والخاطرة والمشهد والفكرة وغيرها، غير معني بالتجنيس بقدر اهتمامه بإيصال أفكاره ومواقفه وتأملاته ورؤاه كما يَعِنُّ لها أن تظهر، دون قيود أو قوالب. ويلاحظ القارئ أنَّ نصوص الكتاب التي بلغ عددها 146 نصًا متباينة الطول، نتاج خبرة حياتية مباشرة، وتأملات فكرية، وانشغالات إنسانية واجتماعية، واشتباك مع الواقع بكل اختلافاته وصراعاته، واستشراف للمستقبل، وقرع لجدران الخزان قبل فوات الأوان. تقول الدكتورة وداد أبو شنب في تقديمها للكتاب: «بين سطور هذا المؤلَّف، انعكاس لثقافات تقاطعت لتشكِّل لنا نصوصًا متنوِّعة الأجناس، فتراه يعرض أمرًا مسكوتًا عنه بطريقة تلميحية وإشارات تعبِّر عن آلام وآمال تضيع إنْ تمّ التصريح بها، في قالب نثيرة، وتراه يقَوْلب فكرته في شكل قصّة قصيرة جدًا، وهي كثيرة، كما تجده يعبر عن حالة في قصّة شبه سِيَرية كقصة عبد الغني، أو قصّة التّفاح، ويرمي بالفكرة في سطر أو في ومضة لمتلقيها الذي تعجبه كيفما كانت بصرف النظر عن الجنس الأدبي الذي حُبست فيه. وما أكثر تلك الومضات التي تشكّل فواصلَ نوعية في هذا الكتاب». كان لافتًا في هذا الكتاب، السخرية السافرة أو المبطنة في معظم النصوص، وبعضها تضمنت سخرية سوداء مرّة بل صادمة أحيانًا. والسخرية وسيلة تعبيرية عميقة تبتعد عن التهكم السطحي لتغوص في أعماق القضايا الإنسانية والاجتماعية، منتجةً نصوصًا موجزة ذات طابع فلسفي وتأملي. وقد تجلت السخرية في نصوص الكتاب، مزيجًا بين السخرية السوداء، والنقد الاجتماعي، والسخرية العبثية، والسخرية التأملية، مما أضفى على النصوص ثراءً فكريًا وجمالًا أدبيًا. السخرية السوداء تتجلى السخرية السوداء حين تجسد النصوص مواقف مأساوية بأسلوب فكاهي مرير، كاشفةً عن تناقضات الوجود الإنساني وقسوة الواقع. ومن أمثلة ذلك، نص «إبليس» الذي يصور تحوّل الإنسان من مفعول به إلى فاعل في الشر، حين يصبح «إبليس» نفسه تلميذًا له: «قد يفسدُك، إبليس في المرّة الأولى، لكنّه في المرّات التي تليها، سيتعلّم منك»، هذا النص يسلط الضوء على العبثية في تبرير الخطايا، حيث يفوق الإنسان الشيطان دهاءً. يلعن الجلاد حظه في قصة «سفلة»؛ بسبب إرهاق السوط: «يلهث الجلاّد، يلعن حظّه، لقد أرهقه السّوط بيده طيلة النّهار، أيّ حياة هذه ألا يحقّ له أنْ يستريح من هذا العناء، من أين يأتون بكلّ هؤلاء السّفلة ليؤدِّبهم؟»، وهذا يعكس المفارقة السوداء في الظلم المنظم، حيث يُختزل البشر إلى أدوات تأديب وآلام. في نص «حديث سوط»، فإنَّ السوط، وعلى الرغم من دوره العنيف، يشعر بالشفقة ويلوم نفسه: «استغرب السّوط من قدرته على إيقاع الأذى بأجساد الأبرياء، تمنّي لهم الصمود، لائمًا نفسه ومنکرًا أصله؛ أعاد التفکير، فهو مؤلم إذا كان بيد الجلادين، وهذا لا شأن له به». مما يُبرز عبثية أداة العنف وشعورها بالذنب. يلتف نص «حماية» على فكرة الربح والخسارة بطريقة تهكمية، ويصور معاناة الخسارة أو الفشل بشكل ساخر، ويشيد بالوضع الخاسر كأنّه أمر لا يستحق الحسرة أو الأسى، بل يذهب إلى أبعد من ذلك ويجعل من الخسارة حالة لا تستحق الشفقة أو الحسد «أنْ تكون خاسرًا هذا يعني أنّك لا تُحسد على شيء !!»، كما أنَّ السخرية تهدف إلى الإيحاء بأنَّ الخسارة قد تكون راحة أو فائدة بطريقتها الخاصة. النقد الاجتماعي يشكل نص «امتنان» مفارقة صارخة تتمثل في أنَّ أهل الحي يشكرون حفّار القبور: «يبدي أهل الحي الامتنان ويسمعونه الثّناء ويجزلون له الدّعاء، كلّما أحسن حفر قبر أحد ذويهم»، ويعكس النص سطحية امتنان البشر حين تُختزل قيمة الإنجازات الإنسانية إلى خدمة الموت وإعداد مثوى أخير للأحبة في نص «معرفة»، تصبح الإشارة الضوئية المجهولة معيارًا لتمييز الغرباء: «في قريتنا قريب من الشارع الرئيسي إشارة ضوئية وحيدة مجهولة المنبت، نميِّز بها الغرباء حين يخضعون لألوانها!!»، وهذه صورة هزلية عن كيفية تبني المجتمعات صورًا مبسطة عن الآخر، كما أنَّ النص يختزل ببراعة فكرة الامتثال للقوانين بوصفها معيارًا للانتماء أو الغربة؛ فالإشارة الضوئية تصبح رمزًا يفضح الغرباء الذين يلتزمون بها دون تساؤل، في حين أنَّ أهل المكان، لا يخضعون لها، ويعيدون تعريف الانتماء بطريقة غير تقليدية وساخرة. يسلط نص «أعذار» الضوء بسخرية لاذعة على الأشخاص الذين يتفننون في تبرير تقاعسهم وأخطائهم، وكأنَّ الأعذار أصبحت بضائع جاهزة، معدة مسبقًا لكل موقف «هناك أناس لديهم دومًا أعذار جاهزة معلّبة مخلّلة مغلّفة وبكلّ الأحجام وتناسب كلّ الأذواق»، إنّه نقد اجتماعي لفقدان المسؤولية وتحويل الأعذار إلى عادة مُتقنة تغطي على الحقيقة وتعيق الحياة. يفضح نص «ثمن» التناقض بين التفاخر بالفخامة والرفاهية التي يتمتع بها الحدث، مثل «الوليمة الفاخرة»، وبين حقيقة أنَّ المدعوين هم أرخص شيء في تلك الوليمة. هذا يخلق تأثيرًا ساخرًا من خلال مقارنة الأشخاص، الذين يُفترض أن يكونوا الأكثر أهمية في المناسبة، بأشياء رخيصة أو غير مهمة «في تلك الوليمة الفاخرة كان أرخص شيء المدعوون». وتكمن السخرية في التقليل من قيمة المدعوين، وتفاهة التركيز على الفخامة والمظاهر على حساب قيمة البشر أنفسهم. في نص «وجوه»، ثمة تناقض بين فكرة المناسبات الاجتماعية، التي من المفترض أن تكون مواقف اجتماعية مفرحة ومناسبة للقاء الأحباء والمعارف، وبين الحقيقة التي يعبِّر عنها النص: «أسوأ ما في المناسبات الاجتماعية العامّة أنّها دومًا تذكِّرك بمن لا تريد رؤيتهم»، هذه المناسبات تُذكِّر الشخص دائمًا بأشخاص مصدر إزعاج يفضل أن يتجنبهم أو لا يرغب في رؤيتهم، في إشارة إلى التناقض بين التوقعات والواقع. ا لسخرية العبثية تتناول السخرية العبثية مواقف تبدو خارجة عن المنطق، لكنها تحمل إسقاطات رمزية على الواقع، ومن أمثلة ذلك، نص «إشغال»، حيث الريح التي تدخل البوق عاكسة عبثية الأفعال حين تفتقر إلى الغاية، وتحول الطبيعة إلى أداة غير واعية لخدمة اللاشيء: «أرادت الريح إشغال نفسها، فدخلت بوقًا!». يظهر نص «ذيل» التصاق الذيل بالمؤخرة كحقيقة غير قابلة للانفصال: «الذنَب (الذيل) لا يجافي المؤخِّرة»، إسقاطًا على التبعية المطلقة التي تنزع عن الإنسان استقلاليته، وهي هنا تبعية عمياء مستقذرة. يكشف النص الرمزي الساخر «بصائر»، عن ظاهرة اجتماعية واضحة للعيان، وهي أنَّ كثيرًا من الناس يستمرؤون الحُفَرَ والقيعان، وإذا جاء من ينقذهم منها بردمها والتخلص منها يقابلونه بالتهم والتعدي على حقوقهم في التمرغ في الوحل والانسحاق: «ذو بصر وبصيرة رأى النّاس يقعون في حفرة ويضحكون من بعضهم البعض وهم يطلبون النجاة والمساعدة. ردمها، فوصفه النّاس بالمبتدع المتعدي على حقُّهم بالسّرور!!». السخرية الفلسفية والتأملية بعض نصوص الكتاب دمجت السخرية بتأملات وجودية، تطرح تساؤلات حول معنى الحياة والموت والعدالة، ومن هذه النصوص: في نص «راحة»، يأتي الموت كوسيلة للراحة من الجدل يعكس المفارقة الوجودية في البحث عن السلام في النهاية المطلقة: «أفضل ما في الموت أنّه يريحك من الجدل». يستعرض نص «أمنيات» شعورًا متأخرًا بجمال الحياة عند اقتراب النهاية، مسلطًا الضوء على السخرية في إدراك قيمة الحياة حين تصبح بعيدة المنال: «كتب في عجالة وهو على مشارف الصعود النهائي: بعد كلّ هذا التجلّد والصمود من حيث بدأتُ سأعود. جميل هذا الكون، بهيج هذا الضّياء، الحياة بديعة، وكم كنتُ لأكون محظوظًا لو أنّني عشتها». في نص «نهاية»، يعود العصفور للطيران بعد كسوره ليموت حيث كان يحب أن يعيش: «العصفور الذي کُسر جناحه، ما إن استطاع الطيران من جديد حتّى طار لمسافة بعيدة نحو شجرة يحبّها، كان ينوي أن يبنيَ عشّه عليها، تعب من الطيران، وصل الشجرة منهكًا ليكون آخر عهده بالطيران حيًّا»، مبرزًا عبثية المصير الذي يتناقض مع إرادة الاستمرار. وبعد؛؛؛ فإنَّ «في انتظار الضوء» لطارق عودة، كتاب نصوص تميز بالسخرية الهادفة التي تتجاوز حدود التهكم لتصبح أداة للتفكير ووسيلة نقدية عميقة تستفز القارئ لفهم تناقضات الواقع الإنساني، كما أنَّ نصوصًا كثيرة وظفت المفارقة والرمزية والاختزال والإيجاز والتصوير الكاريكاتوري. وهو كتاب يوقد شمعة في انتظار الضوء الذي سيأتي لا محالة، ويقول الكثير، ويجعل القارئ شريكًا في اكتشاف المعاني المبطنة خلف كل نص، ويضعه في مواجهة كثير من القضايا والمشكلات والمشاهد الواقعية والخبرات الحياتية. ويسلط الكتاب الضوء على كل ذلك وغيره؛ بهدف التفكير والتأمل وإعادة النظر، وضرورة أن نلتفت حولنا، وتحت القشور، لنتعرف، ولو قليلًا، على كثير من حقائق الأشياء التي تغيب عن الإنسان العَجِل أو اللامبالي.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 07-02-2025 06:22 مساء
الزوار: 43 التعليقات: 0