في عقلنا زاوية غير بعيدة؛ حين نسلط عليها قدرا معقولا من الضياء، تتراءى لنا حقيقة تلك العاطفة الجياشة التي عادة ما تجيش داخلنا بانضباط حكيم، وطول بال حليم، العاطفة هذا السفر الجميل من أسفار المشاعر على تنوعها، حيث تجيز لنفس الحالم الانفلات بالأحلام وخوض التجربة في الخيال، إنما حين تعايش مثل هذا الحلم ككاتب على الورق بتعبيرات سخية غير متوارية فإن ذلك لا يبعدك عن الواقع إلا قدرا تتطلبه تمثل الواقع لتأدية غرض، لكن الكاتب مضطر أن يتمثل غير الواقع في كثير من الأحيان ليعايش حالة يود أن رهق مداده بها حين تنقشه بسيل من الجياش غير المترائي، من جملة جياش الأحلام، لشعور إنساني سليقي عابق بالنشوة ليبدوا الاحساس منطقيا.

إن للعشق ورع ينتاب العقل فيستسلم خاشعا لهذا الترتيل النبضي الجميل، فيوطن فيه قناعة تحسبها يقينية، لولا أن من شأن العقل أن يتعقل حتى وهو يعافر في مهب الرياح، مهما علا وتيرها، وأرسلت بالأجواء هديرها، وإن كنا ادعينا الحلم فنحن في بعض المشاعر نتحول مجرد حالمين، تأخذنا الأوهام مآخذها الوهمية الغارقة بالخيال، إنما من حظنا الطاغي أن الله منحنا القدر الكافي من التعقل، لنحتكمه عند قاضي العقل.

يجتاحنا في بعض الأحيان شعور مباغت خارج عن إرادتنا، طاقة عالية تفوق طاقة الشمس حين ترسل شواظ شعاعاتها حُزما هائلة تخترق طبقات السماء وتتعامد مع شعاعات دواخلنا العاطفية، فيرتسم بين أعيننا طيفا كأنه الملاك الهابط من السماء، بجناحين عظيمين يغطيان صفحة السماء، ويلقيان بظلهما فوق سفح أرواحنا المجردة من الإرادة، يأتي هبوب هذه المشاعر ليطغى على كل إحساس.. بعض الوجوه بطبيعتها تمتلك طاقة سحرية عجيبة بتأثيرها، وإن لم تكن في ملامح الجمال النادر، لكنها تثير فيك بركانا هادرًا لا يوقف حرارته برودة الماء، وإن أطلقت عليه شلالا بحجم شلالات نياغرا العظيمة، وإذا أطرافك تفقد قدرتها على إرسال لغة جسدك، وحروفك تتجمد داخل حلقك حتى تكاد تزوَر بها وتتشردق مختنقاً بحجرجتها، وتنتابك قشعريرة غريبة كأنما هي موجات كهربائية عالية التردد، تخترقك كالسهم المنطلق بكل طاقته.

منعش هو حلم اليقظة حد التخفف؛ يأتيك بانشراح نفسي رائق واهتمام طاغ، ويضع بين أضلاعك إلفة عجيبة تستحوذ على كيانك، فإذا روحك طائر يتهادى جناحاه بتحليق ليس كأي تحليق، بالكاد تلحظ لهما تصفيقاً، ينساب عباب السماء بلا احتساب.

فالحب يضعف صاحبه ويسلبه قواه، فتكثر في حضرته الرسائل والإشارات، وتأتيك الأوهام بسلطة الأحلام مما يخطر على البال ومما لا يخطر، هكذا تتحول إلى إنسان واقع بكل كيانه بسحر الإنجذاب وميل الأرواح البكر.. وتسلط الأحلام ليس بالأمر اليسير، فهي تجتاز عقلك إلى قاعدتك، فيغدو لزاماً عليك أن ترفع أسواراً بين العقل والقلب، وإلا استحكم الحلم في عقلك الباطن، وسيطر على كل مقاوماتك وإن تسلحت بالثقيل من سلاحك.

فإياك.. ثم إياك من إثارة ذهنك بالغفلة الضارة على المدى الطويل في حال الإفراط بأحلام اليقظة لتحقق إشباعاً وهمياً، فالمنطق الطبيعي أن تعيش الواقع، أن تحلم فتضع حلمك نصب عينيك إذا كان الحلمُ قابلاً للتحقيق، الاستغراق في الأحلام يضعف أسلحة مواجهاتك، فتعوضها بأحلام تشبع حاجتك وتقيك المواجهة، لا يكفي أن تكون أمنياتك مجرد حلم، لأن الواقع دوما أجمل وأنعش شعوراً وأسلم تأثيراً طالما كان ممكناً، فغير الممكن أبداً لا يمكن.