هناك .. اتخذ مكانه قرب إحدى نافذات القطار، كان بخار فنجان قهوته يتصاعد رويداً رويداً ثم يلتصق بالزجاج، لكنه لم يأبه لهذا القناع الشقيّ أخذ رشفةً واحدة وسرّح بصره ليخترق البلور الشفيف.
للأفق مسحة ساحرة، ليس يدركها سوى القليل القليل. ثمة صمتٌ سرمديّ ينساب من مقلتيّ السماء، وغيوم شاحبة منثورة هنا وهناك، ويكأنها سيمفونية مبعثرة الصدى. رذاذ المطر إيقاعها الأول، ودغدغات الشجر حين تعرّيها الرياح العابثة من الصمت إيقاعها الآخر، وثمة بقايا خيوط من الشمس الآفلة تفترش أديم السحاب، تسترق منها لحظات أخيرة كي تحيا. تحتضر ببطء شديد وترتحل في الظلام.
عيناه مبدع يلتقط صوراً نادرة للوجود، يختلس أدقّ الأشياء ويخزنها في الذاكرة، ورائحة القهوة تبعث الدفء إلى أشلائه الباردة فيخفق قلبه بشدة. هي سويعات ويلتقي بها، في محطة ما آتية لا محالة. هي الفاصلة بين البعث والفناء، هي الأمل الوحيد الهارب من سطوة المستحيل، هي الفرق بين الشيء واللاشيء، الآخر القدسي حين تفقد كل الذوات ذواتها.
آه ما أبعد الآتي!! تطول المسافات حين يعتريها الانتظار، وتنزلق الأماني حين تُعلّقُ بشراع سندبادي السفر، ولا يتبقى سوى المدى بما يحمل من أمد....... السماء ملبدة بالغيوم، ملبدة بالحزن والألم، بانتظار لحظة ما تنشق عن ذاتها فيتمخض المطر. عيناه معلقتان بهذا الوجوم، يتقاذفهما أنّى شاء .. رهينتا رمش محلّق في السماء. يوم كانت السماء مهداً لروحيهما، يحلّقان فيها بلا رجوع، يهربان من هذا الوجود الضيّق. بيد أن السماء غيرها السماء ، لم تعد تسترقه من الوقت، ولم تبق فيها هويةُ للقاء.
القطار يمضي !! يمزق المسافات والزمن، يعيدُه المكان لكنه يأبى الرجوع، ويدافع عن كل آونة يرتحل فيها بنفسه متمرداً على ماهية الزمان والمكان. يتراكض بين الغيوم المشبّعة بالليل حتى الشحوب، يمتطي كبوة النسيان لينفصل بكل أحاسيسه عن الزمن. يحاول البحث في أوراقه الأولى عن روح عانقت الليلك والبيلسان، فينطفئ آخر ومض من النور، وتزحف العتمة لتعمّ أرجاء المكان.

بدأ المطر ممزوجاً بسواد قاتم، برائحة للحروف التي انهالت على أوراقه، وبطعم قهوته العلقمي يضرب النافذة بقسوة، ويشج ملمس عينيه الحزين حين تخترق الزجاج، ثم يترقرق كدموع تحفر طريق رحلتها إلى الأبد.
شيء ما يحاصر روحه، يبعث في نفسه شعوراً عارماً بالخوف؛ الخوف من عاصفة البعد تسيطر أفكاره، وتحصد شهوة اللقاء من عروقه، فيقف أمام تيارات الذاكرة بمدّها وجزرها، ليشكل أسطورة تكاد تدمي اللحظات وتقاتل كانون الذي مزّق وريقات الورد، وأفنى شعاعاً تغلغل في ألق روحه.
كل شيء من الماضي ينهال بشهوة بركانية عليه، حاملاً معه ذكريات موجعة، تقتلع ما سواها من الفرح، لحظة تساقطت أوراقها وتبعثرت في جنبات الزمن ثم ارتحلت في قطار لن بعود. والآن على أمل ما سيلتقي بها، وسيحمل عن " بنلوب " لحظات الانتظار كلها، لن يتركها تنقض غزلها أبداً، سيدخلان وقت البنفسج معاً، وسيغفل عنهما الزمن، ولن تطاردهما الأيام.
أغمض عينيه، وغاب في رائحة القهوة، وضاع بين دقات المطر بشفافية ساحرة. كيف سيلتقيان بعد ألف عام من البنفسج؟! بعد شتاء طوبل من الأغنيات ، وزحام الكلمات والقصائد؟! هل ستحمل غابات الجاردينيا التي يحبها؟ هل ستمتزج عيناه ببريق عينيها السماوية؟؟ هل سيخترق الموج والشاطئ معاً؟؟
توقفت أسلاك المطر عن وميض زئبقيّ شجّ أجنحة السماء، وأخذت النسائم تترنح موجعةً هنا وهناك، كسنونو مكسر جناحيه. حاول أن يرتشف بقايا فنجانه، فوجدها باردة كعتمة الشتاء في كانون، لا نبض فيه ولا حراك، وكأنها تمتص من جسده رائع الحلم، وتسلبه الأمل الأخير في اللقاء..
إنه يداعب بأنامله القناع الشقي الذي اتخذ من البلور لغةً للتخاطب والعبور، يحاول رسم بعض الكلمات التي لا يقوى على لفظها وتعتيقها من أسر شفتيه. وأخيراً توقف القطار... كل يتخذ سبيله ويمضي تاركاً إياه في وحشة غارقة بالزبد المرمريّ!! عندها دبّت الحياة في قدميه، وسار ببطءٍ شديد حتى نزل من القطار.
المكان غارق بسرمدية شتائية شاحبة، حيث اندملت جراح السماء، وكفّت الغيوم عن نزفها المدرار، والأكاسيا لا تزال مبللة ترتجف، ورائحة الزنبق والسوسن تعبق المكان. ثمة أشواق تتأرجح داخله باضطراب تنقر أشلاءه المبعثرة، تلملمها تارة، وتبعثرها أخرى.

صار يبحث عن ذلك الكرسي العتيق الذي يحاذي شجرة السنديان، يبحث عن ماضيه هناك، عن لحظة سافرت إلى الأقحوان، عن مُعلّقة العشق التي خُطتْ على عناقيد الغسق، عن لوحة فستقية غابت في زحام الذاكرة، وتعلّقت على جسور النسيان.....
إنه هناك!! في زاوية من زوايا الروح صكّ هويةً للبقاء، وشجرة السنديان لا تزال حانية تحنو ذؤاباتها على صفحة وجهه التي رسم عليها العمر مدىً محملاً بالحزن الكالح حتى آخره. دنا قليلاً حين خالها جالسة هناك، ورائحة الجاردينيا ترسم أغلالاً رحيقها وطن شريد.
كان الكرسيّ غارقاً يالمطر، وعيون الجاردينيا غارقة في ذبول طويل. ألف عام من الانتظار !! ألف عام من الرحيل!! تكسرت اللحظات الجميلة في خاطره. لم يبقَ سواها أوراق الجاردينيا الشاحبة، وبعض قطرات المطر تتأرجح فوقها. ضمها لصدره، قرّبها من مساماته التي اشتاقت لها أيما اشتياق. قلب الوحيد غارق في الضياع، تتحشرج كل زفراته وأنينه، وتنشج أدمعه بحرقة بالغة في الأسى.
حاول أن يغلق فوهة البركان، وحين أعجزه التعب، ألقى خلفه كل لحظات الفرح والحلم، وأخذ يبحث عن قطار... ومحطات غائمة في اللاوصول........