لا تزال هناك تقفُ كعادتها كلّ غروب، تشتمّ ما تبقى من ذكريات، وتحدّثُ شقوق التراب وأوراق الشجر كم أوجعها الحنين!! لا تزال ترمق بعينيها مفترق الطرق الذي جمعهما ذات غروب، وترنو إلى الشمس كيف تلملم جدائلها عن صفحة الأرض الحنون، فتُحمّلها باقات من الأمنيات إليه!!
أما هو.. فلا يزال هناك أيضًا يتطلع إلى نافذة وحيدة أعلى زنزانته، يتأمل آخر خيوط الشمس الواهنة، كيف يرحل على مهل، يحمّلها أمنياته هو الآخر، ويجلس محاذاة الحلم ينتظر أن يجيء بالمسرات، وبأخبار تروي روحه العطشى.
بدتْ قويةً كالسنديان، لا تهزّ قامتَها الريحُ العنيدةُ مهما حاولت اقتلاع جذورها أو تحطيم غصونها، رغم أن دموعَها تتفلّـتُ من عينيها كلما تنفستْ جروحُها، لكنْ ليس ثمة ما تتمسك به سوى الانتظار.
عشر سنوات مضتْ على اعتقاله خطّتْ في مفرقيها سطورَ المشيب، ومزقت نياطَ قلبها الحزين. اعتادت أن تخيط ما تفتقَ من أوجاعها بالأمل وبما تبقى من ذكريات، واعتادت أن تعدّ دقائق الفرح كل ليلة وهي تنتظر الرجوع. لقد وعدها أن يعود ليشهد ميلاد طفلهما الأول، وعدها ألّا ينكس صورته البطولية التي عشقتها، وأوصاها ألّا يلوث الحزنُ مقلتيها إنْ تمطّى الرجوع.
واعتاد هو أن يرسم على الجدران الصّماء وشمًا لا يمّحي، صورة لملامح جديدة، تشبه روحه، لم يرها قطّ، لكنه يعلم أنه سيكون سيّد الرجال مثل أبيه. يشتاق له كثيرًا، إنه يكبر بعيدًا عنه، وسرعان ما تتغير ملامحه الطفولية. لابدّ أنّ أمه تصنع منه القائد العظيم الذي حلما به معًا. لقد اعتاد أن يكتب في كل زاوية حكاية حنين، وأن يُعدّ نفسه للرجوع.
امرأة مثلها مشبعةٌ بالحب والوفاء لم تهزمها سنون الانتظار، لم تكفّها أن تعدّ المكان والزمان لرجوعه، أن تعدّ له فنجان القهوة بنكهة البحر، والشموع المعطرة برائحة الورد، وكل ما يحب من أطياب الطعام، ثم تجهز ملابس نومه، وتقف أمام نافذتها تنتظره. ترنو بعيدًا فيرتدُّ طرفها حزينًا. كل رفقائه الذين أسروا معه عادوا وهو لم يعد بعدُ..!!
مهلًا.. إنها تسمع طرقًا بالباب، إنه طرق زوجها، هي التي تعرف هذه الدقات أكثر مما تعرف نبضات قلبها. هل توقظ ابنها لاستقبال أبيه؟؟ لا،الجو باردٌ في كانون!! سيراه صباحًا ويهنأ به.
تقدمتْ بقلب تغمره نشوة الفرح، تمسح خطوط الدمع وقد حفر طريقًا أبديًا في وجنتيها. ستكون بعد ثوانٍ دموع فرح لا ينتهي!! تخطو نحو الدقات المتباعدة فيضيع في كل خطوة ما شاء لها من وجع، اقتربتْ من الباب وأصابعها المرتعشة بالكاد تمسك مقبض الباب القديم. إنه هو.. لقد عاد أخيرًا!!
كل كلمات الشوق تتسابق إلى مسمعه، تلحقها ما تبقى من مفردات وجع. سارت به نحو الأريكة التي اعتاد الجلوس عليها. لا تزال قهوته التي أعدتها ساخنة، وهاهي الشموع تفوح برائحة الورد، كل شيء حولها معدّ لاستقباله، كأنها على موعد مسبق معه. حدثته عن ابنهما الذي أتم العاشرة من عمره، كيف يسندها وكيف تتوكأ عليه، حدثته كم انتظرته، وكم سهرت ترتقب رجوعه!! حدثته كم انطفأت روحها وكم ذبلتْ في غيابه!! حدثته عن قسوة الأيام وكم خذلها الكثيرون بعده.... وما أقلَّ ما حدثتهُ عنه!!
إنه هو، ملامحه لم تتغير رغم قسوة الأيام، لكنّ بريق عينيه خافت جدًا، وابتسامته ذاوية. لا بأس!! سيعود كل شيء كسابق عهده، مادام عاد إلى بيته أخيرًا.. أيُّ فرح هذا، وأيُّ ريح شتائية أتتْ به إليها!! يالَفرحتها التي....!
ما بالها القهوة باردة هكذا!! ولمَ الشموع انطفأت ذبالتها فجأة!! أيُّ عتمة هذه التي تملأ المكان، وأيُّ وجع هذا الذي يعتصر قلبها!! إنها جاثمة مكانها لم تبتعد عن النافذة، لا زالت تنتظر رجوعه ككل ليلة، ولكنها مذ رحل حبيبها عن الدنيا لم تعد تشعل الشموع....!