ما زالت الأمة العربية فى الألفية الثالثة تواجه تحديات متنوعة ومتداخلة، تقف وراء المشكلات والكوارث التى لحقت بها، فهذه التحديات لا تعوق تقدم العالم العربى فحسب، وإنما تُؤثر على أمنه واستقراره،وتهدد كيانه ووجوده، وتجعله عرضة للتبعية والهيمنة الثقافية فى ظل العولمة الجديدة، لذا كان على التربية أنْ تواجه هذه التحديات برسم استراتيجيتها التربوية المستقبلية بما يتلاءم مع أصالتها العريقة وقيمها وتطلعاتها التنموية فى القرن الحادى والعشرين.
وقد فرضت المتغيرات العالمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنموية فى عصر العولمة تحديات كثيرة على مختلف الأنظمة التعليمية، مما يستلزم التعامل معها بفاعلية ووعى، كما تتطلب تلك المتغيرات مواطناً عصرياً لديه الحافظ والقدرة على التفكير الخلاق والإبداع، مع التأكيد على الذاتية الثقافية والهوية المصرية، وتأكيد قيم الولاء والانتماء للوطن.
فالثقافة العربية الأصيلة تتعرض لكثير من التأثيرات الثقافية الأجنبية الوافدة بسبب التقدم فى وسائل الاتصال والإعلام فى القرن الحادى والعشرين، وهذا التأثير الثقافى الوافد نجح فى فرض قيمه وأساليبه وطرق تفكيره على ثقافة المجتمع العربى والمصرى، مما يُعرض الهوية الثقافية للتغير الجذرى العميق، وهذا ما يُسمى بالغزو الثقافى أو التبعية الثقافية، فلابد من العمل على ضرورة تحقيق الأمن الثقافى للوقوف ضد المخططات التى تهدد الهوية الثقافية
ومن ثمَّ، فإن الاهتمام بتحقيق الأمن الثقافى وخاصة لدى الشباب بات ضرورة ملحة، نظراً للأخطار التى تهدد هوية المجتمع المصرى والناجمة عن العولمة بكل أبعادها، والتقدم العلمى والتكنولوجى، حيث أصبح ذلك يمثل تهديداً قوياً للدين واللغة والقيم والعادات والتقاليد والتراث والعلاقات الاجتماعية وطرائق التفكير والإبداع، وغيرها مما يُهدد الهوية الثقافية للمجتمع، ويضعف شعور الفرد بالانتماء والولاء لوطنه، فكل ذلك يُزيد من أهمية الحاجة لتحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب فى ظل التحولات السريعة والمتلاحقة فى مختلف مجالات الحياة.
فالأمن الثقافى يُعنى الحفاظ على الهوية الثقافية فى مواجهة محاولات الهيمنة على الثقافة والشخصية القومية، فضلاً عن حماية المؤسسات الثقافية فى داخل المجتمع من التبعية والاختراق، الأمر الذى يجعل الأمن الثقافى طريقاً للمحافظة على العقل العربى من الاحتواء الخارجى ومن الغزو الداخلى
وعليه فإن الأمن الثقافى من خلال المحافظة على الهوية الثقافية وتنميتها وتطويرها وتجديدها مع المحافظة على أصولها يعد ضرورة تربوية، "خاصة فى عصر العولمة الذى أدى إلى تأثيرات ثقافية وتربوية أدت إلى اهتزاز المراكز التربوية وسقوط النماذج التربوية العربية نتيجة لقيم العولمة المكتسحة بثقافتها الهمجية الضاغطة على النظم التربوية العربية، وهذا ما يفرض على التربية العربية مراجعة فلسفتها ونظمها ومناهجها وتقنياتها للتعامل مع ضغوط العولمة الثقافية على الحقل التربوى.
فالهدف النهائى للعولمة الثقافية ليس خلق ثقافة عالمية واحدة، بل خلق عالم بلا حدود ثقافية، فهى تتضمن بلوغ البشر مرحلة الحرية الكاملة لانتقال الأفكار والمفاهيم والقيم والمعلومات على الصعيد العالمى، وبأقل قدر من القيود والعراقيل والضوابط، مما يؤثر على التربية ونظمها فى الاحتفاظ بالهوية الثقافية فى الألفة الثالث
فالعولمة الثقافية لابد من مواجهتها بكافة المؤسسات المجتمعية والتربوية للحفاظ على الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر، حتى لا يكون هذا الشباب منـزوع الشخصية مخترفاً فى دينه ولغته وحضارته، منحرفاً فى اتجاه الجريمة والانحلال الأخلاقى، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال التربية التى لها مهمة إعداد الفرد للتكيف مع متغيرات الواقع وتأهيله الفعال الإيجابى للتعامل مع مستجدات الحاضر والمستقبل فى ظل تحديات تستهدف الهوية والجذور الحضارية والشخصية الثقافية، وهذا ما يُؤكد فى بعض المؤتمرات والندوات والدراسات والبحوث من المفكرين والتربويين على النحو التالى.
حيث تشير دراسات عدة إلى ضرورة تفعيل دور كليات التربية من خلال مقرراتها ونشاطتها وبرامجها الثقافية، بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدنى من أجل الحفاظ على الهوية الثقافية تحقيقاً للأمن الاجتماعى والثقافى فى المجتمع المصرى، وذلك للوقوف ضد تحديات العولمة الثقافية وسلبياتها العديدة التى أحدثت تلوثاً ثقافياً وانحلالً خلقياً لدى الشباب المصرى، مع فقدان الثقة فى الهوية والانتماء للوطن، علاوة على التشويه المتعمد للدين الإسلامى واللغة العربية والتراث والقيم فى المجتمع المصرى والعربى.
وإلى مدى إمكانية صياغة مفهوم جديد للهوية الثقافية فى الفكر التربوى المصرى المعاصر وذلك استناداً إلى فلسفة تربوية عربية خالصة تهتم بمعالجة قضايا المجتمع المصرى والعربى من فساد أخلاقى وإرهاب وتبعية ثقافية وتسلط وجمود فكرى، وفهم مغلوط للدين، وذلك من خلال الاهتمام بالتنشئة السليمة للشباب والقدرة على العمل والإنجاز والإبداع والمشاركة فى عملية التنمية والتجديد داخل المجتمع المصرى، مع إيمان الفكر التربوى المصرى المعاصر بضرورة الحوار الثقافى مع الآخر، وذلك حفاظاً على الهوية الثقافية لدى الشباب المصرى فى ظل المتغيرات المعاصرة فى بداية القرن الحادى والعشرين ، وضرورة مواصلة تجديد السياسات الثقافية للدول العربية والإسلامية فى ضوء التحديات العالمية المعاصرة وذلك من خلال تعزيز بناء الذاتية الثقافية الإسلامية والعربية وحمايتها، وتمكين الحقوق الثقافية للجميع، وتحقيق الإنماء الثقافى لخدمة التنمية المستدامة، وتعزيز ونشر ثقافة السلام والحوار والاحترام المتبادل بين الثقافات، وذلك من أجل تحقيق الأمن الاجتماعى والثقافى والنمو الاقتصادى بالدول العربية والإسلامية فى عصر العولمة.
وضرورة استجابة التربية العربية لتحولات الهوية الثقافية فى عصر العولمة وذلك من خلال تأسيس فلسفة جديدة للتربية العربية قادرة على الصمود ضد تهديد العولمة للهوية الثقافية، بالإضافة إلى تفعيل الموقف التربوى من خلال أدوار فعالة للمؤسسات التربوية المختلفة لمواجهة تأثير العولمة الثقافية، علاوة على تحرير وتشكيل العقل النقدى، وإيحاء التراث، وتنمية مشاعر الولاء الوطنى وتعظيم الوعى التنموى، من أجل تدعيم تربية الهوية الثقافية والحفاظ عليها إزاء الضغوط المتراكبة للعولمة، وخاصة الثقافية منها.
وتشير أدبيات التربية إلي أن التعقيد والغموض بلغ فى ثقافة العولمة مستويات لم تعد كثير من مصادر المعرفة العلمية قادرة على فهم مجرياتها، وكان من نتاج ذلك ظهور التفكك فى النسيج الاجتماعى والتربوى وشيوع البطالة والاغتراب الثقافى، بل والتنكير لقيم الثقافة الوطنية وتهديداً لمقومات المواطنة والانتماء، وهذا ما أدى إلى التبعية الاقتصادية والهيمنة الثقافية وتهديداً واضحاً للهوية الثقافية لدى الشباب فى المجتمع المصرى.
وضرورة مواجهة العولمة وتحديات القرن الحادى والعشرين من خلال المنظومة التربوية بأبعادها المختلفة، ذلك من أجل تأكيد الهوية العربية الحضارية الأصيلة، وتعزيز الانتماء القومى لأبناء الأمة العربية، وذلك من خلال ما يلى : رفض الهيمنة الثقافية الأجنبية، وتعزيز الهوية الثقافية العربية، وذلك بدعم اللغة العربية وتعزيز مكانتها بين لغات العالم. ، تطوير المناهج التعليمية مع إعداد المعلمين لمواجهة التحديات بمختلف أشكالها، مع غرس القيم العربية والروح الديمقراطية فى نفوس الشباب العربى وتجسيدها سلوكاً حقيقياً فى حياتهم اليومية، تحقيقاً للأهداف السامية للتربية العربية ، التسلح بمعطيات التكنولوجيا الحديثة والتقنيات التربوية المتطورة ، التركيز على التربية المستقبلية، وإبراز الهوية الحضارية للأمة العربية تحقيقاً للأمن الثقافى والاستقرار والتنمية، باعتبارها مصدر إبداع وتفاعل مع الثقافات العالمية.
وأنه لكى يتم تحقيق الأمن التربوى فى مصر لابد من الاهتمام بالحفاظ على الذاتية الثقافية لدى الشباب فى مصر، والقدرة على تفسير المشكلات المجتمعية المرتبطة بالقضايا الثقافية المحلية والعالمية، حتى يُمكن الشباب المصرى من اسيتعاب التيارات الفكرية المختلفة، ومواجهة التحديات المعاصرة للشخصية المصرية.
وأن الأمن الثقافى من خلال المحافظة على الهوية الثقافية من لغة ودين وعادات وعلاقات اجتماعية يمثل البعد الثقافى الأساس فى تحقيق الأمن القومى العربى فى ظل التغيرات المعاصرة التى تعد من أخطر المهددات التى تواجه الثقافة العربية بشكل عام، وثقافة الشباب بشكل خاص، ولعل أهم هذه التغيرات عولمة القيم والمعتقدات والأفكار الغربية وغيرها المدعومة بأحدث إنجازات ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.
كما أن الاهتمام بحقوق الإنسان ضرورة فى عالم اليوم وخاصة لجماعات الأقليات الأفريقية،والأمن الثقافى مرتبط تحقيقه إلى حد كبير بحقوق الإنسان فى إفريقيا، فيما يتعلق بعدم التفرقة العنصرية والحقوق الدينية والاقتصادية والبيئية وعدم التبعية السياسية للغرب، حتى يتم الحفاظ على الحياة الثقافية لهذه الأقليات.
ومن الضرورى أن يكون للتعليم عامة وللجامعات خاصة فلسفة تربى الانتماء والمواطنة فى نفوس الطلاب، وتخرج للمجتمع أجيالاً تؤمن بقضاياه الثقافية والفكرية، أجيالاً قادرة على النقد والعمل والإنتاج، أجيالاً لا تكون بضاعتها الكلام، وإنما تحمل هم مجتمعاتها فتعمر وتسهم بفاعلية فى التطوير والتحسين وهو الطريق الأمثل للحفاظ على الهوية الثقافية وتحقيق الأمن والاستقرار للمجتمع.
إن تحقيق الأمن الثقافى ضرورة تربوية وثقافية فى ضوء التبعية والهيمنة الثقافية التى يُعانى منها المجتمع المصرى، وانطلاقاً من أن الجماعة من أهم مؤسسات المجتمع التى يقع عليها عبء تحقيق التنمية الشاملة، ومن ثم تحقيق الأمن القومى العام بما فيه الأمن الثقافى، فيمكن أن تقوم بدور مستقبلى هام فى تحقيق الأمن الثقافى من خلال الاهتمام بالبحث العلمى ومحو الأمية والتعليم المستمر وتنمية الوعى الثقافى لدى طلابها، وإيحاء وتحديد التراث الثقافى، مع تدريب الطلاب على المشاركة وممارسة الديمقراطية لتدعيم قيم المواطنة والانتماء، وذلك لمواجهة الاختراق الثقافى فى كل مجالات الحياة.
وضرورة تحقيق الأمن الثقافى فى المجتمع وخاصة فى البلدان النامية وذلك لمواجهة العولمة الاقتصادية والثقافة الغربية التى تنشر الفساد والانحلال الأخلاقى، وتحدث تغيرات فى الهوية الثقافية فى المجتمع، فلابد من حماية الثقافة وتحقيق الأمن الثقافى حتى يتم الحفاظ على العادات والقيم والنظام السياسى والاجتماعى لكل أمة.
واستناداً إلى ما سبق، فإن الأمن الثقافى ضرورة تربوية تفرضها العولمة الثقافية، الأمر الذى يتطلب إعادة النظر فى أداء المنظومة التربوية فى مصر، بحيث تصبح قادرة على تعميق الهوية الثقافية فى نفوس الشباب، وتحصنهم بالقيم والمهارات والأفكار والتى تساعدهم على أن يكون لهم دوراً فاعلاً فى تغيير وتطوير مجتمعهم، ولا يكونوا مجرد مقلدين تابعين للغرب، يعيشون على زاده الثقافى دون إبداع أو ابتكار.
ولكى يتم تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر، لابد من وجود متطلبات عديدة لإرساء القواعد الثقافية الضرورية التى تحقق الأمن الثقافى باعتباره حجر الأساس فى تحقيق الأمن القومى العام فى مصر، وعملية تحقيق هذه المتطلبات ليست قاصرة على المؤسسات التربوية النظامية فقط، بل أن هناك مؤسسات تربوية غير نظامية أكثر أهمية ومستقلة عن السلطات التعليمية، فتعمل بذلك على تنويع وإثراء مفاهيم ومتطلبات الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر بشكل أكثر وضوحاً وفاعلية بجانب المؤسسات النظامية الأخرى، وذلك تأسيساً على أهمية الشراكة المجتمعية فى العملية التربوية فى العصر الراهن.