|
|
مفارقة السلطة والحرية في المشروع التربوي الكاتب: الأسعد قادري من تونس
مفارقة السلطة والحرية في المشروع التربوي الكاتب: الأسعد قادري من تونس تقوم العلاقة التربوية على عدم المساواة بالنظر إلى مكانة كل من المعلم والمتعلم. فالمعلم بصفته المؤسسية وبكفاءته يمثل سلطة. في المقابل نجد المتعلم في سياق يخضع فيه لسلطة المعلم ونظام المؤسسة. ولئن كان من أهم غايات النظام التربوي تحرير المتعلم وتربيته على الاستقلالية والترشد الذاتي، فإن السؤال المحوري هنا هو كيف يمكن تحقيق غاية تحرير المتعلم في ظل علاقة تربوية غير متناظرة ترتكز على سلطة المعلم؟ وهل أن العلاقة التراتبية بين المعلم والمتعلم، تمثل مشكلا أم يمكن النظر إليها ضمن تمشي وظيفة التنشئة الاجتماعية التي تضطلع بها المدرسة؟ ولكن قبل محاولة البحث في هذه الإشكالية، دعنا نتوقف قليلا في مستوى السياق المفاهيمي لبعض المصطلحات مثل التربية، السلطة، الحرية... مفهوم التربية: "التربية هي مجموع التمشيات والإجراءات التي تسمح لكل طفل إنساني بالولوج التدريجي إلى الثقافة، علما أن الولوج إلى الثقافة هو ما يميز الإنسان عن الحيوان." ولئن كانت التربية عملية بناء داخلي بالأساس إلا أنها تخضع لتأثير الكبار في الصغار بغية أنسنة الإنسان بواسطة الثقافة. مفهوم السلطة: حسب جورج بيردو فإن "السلطة هي القدرة على الحصول على سلوك معين من قبل أولئك الذين يخضعون لها، دون اللجوء إلى الإكراه الجسدي." بهذا المعنى، فإن السلطة ليست وسيلة لتأكيد القوة ولكنها على العكس من ذلك، فهي تساعد المتعلم على النمو الشامل وبناء استقلاليته. مفهوم الحرية: يذهب محمد محفوظ في مقال له بعنوان التربية على الحرية إلى اعتبار "الحرية ليست تفلّتا من القيم، وإنما هي انسجام تام مع النواميس والقوانين الاجتماعية والكونية" هكذا ينظر إلى الحرية ضمن الإطار التربوي كالتزام بما هو كائن خارج الذات من قيم ونواميس وقوانين. في الواقع هناك عدة مفاهيم أخرى تتفرع عن هذه المفاهيم المحورية التي عرضناها ولعلنا نتطرق إلى بعضها لاحقا مثل مفهوم التوجيه ومفهوم الاستقلالية. من المعلوم أن التنشئة الاجتماعية تمثل تمشيا مركبا تتداخل فيه التربية الوالدية والتربية المدرسية وكل ما يراكمه الطفل من تجارب يعيشها في بيئته الاجتماعية. لذلك يجدر بنا أن نبدأ منهجيا بمحاولة الكشف عن بعض سمات التربية العائلية في المرحلة قبل المدرسية لنتطرق لاحقا إلى معادلة السلطة والحرية في التربية المدرسية لننهي برسم مسلك عبر المشروع التربوي في محاولة لتأمين عملية الانتقال من السلطة إلى الحرية. يتلقى الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة تربية تتم بالأساس ضمن إطار العائلة حيث يتسم المناخ بهامش واسع من الحرية والتسامح والرعاية التي يسيطر عليها المظهر العاطفي. فالطفل ينشأ عادة في الوسط العائلي على معاملة الراشدين من حوله، بشكل تلبى فيه جل رغباته. في هذه المرحلة لا يحتاج الطفل للاستشارة كي يلعب أو يتمتع بحاجياته الحياتية كالغذاء أو النوم أو قضاء حاجاته الطبيعية. من ناحية أخرى نلاحظ أن الطفل يكتشف تدريجيا المكانة التي يحظى بها داخل العائلة فيمعن أحيانا في الطلب بقدر ما يستجيب الكبار لرغباته الجامحة للاكتشاف. ثم إن القائمين على تربية الأطفال في المرحلة قبل المدرسية، لا يحبذون أساليب المنع والفرض والزجر وينزعون غالبا للأسلوب اللين في كبح جماح الطفل لتعديل طلباته. يمكن اعتبار بيئة الطفل في هذه المرحلة مهيأة من قبل الكبار بشكل واع ومسؤول لتساهم في تعزيز فرص التعلم والتنشئة الاجتماعية السليمة دون اللجوء إلى القوة أو القهر. ولكننا لا ننكر أن هناك حدا أدنى من الرقابة التي تحد من حرية الطفل وتجعله يتحرك ضمن إطار منظم مسبقا لم يشارك في اختيار قواعده ولا نخال هذا المستوى من السلطة معرقلا لنموه النفسي، بل ربما يكون ضروريا حتى يمر الطفل إلى المرحلة الموالية من تنشئته بشكل سلس. بعد هذه المرحلة التي تمتد حتى سن السادسة من العمر، يلتحق الطفل بالمدرسة ليجد نفسه فجأة في مواجهة تحديات جديدة لا تخلو من القيود التي تحد من هامش الحرية الذي كان يتمتع به سابقا في بيئته العائلية. فإلى أي مدى يمكن تأمين عملية الانتقال إلى هذه البيئة الجديدة؟ تندرج المدرسة ضمن نظام تربوي تتطور أساليب اشتغاله بتطور حاجيات الفرد والمجتمع لمخرجات قادرة على الاندماج والتفاعل مع متطلبات العيش المشترك أخذا وعطاء. فالنظام المدرسي قائم على قواعد وتراتيب حددها الكبار على اعتبارها تضمن نحت ملامح المواطن المأمول. ضمن هذا الإطار يواجه التلميذ منذ يومه الأول بالمدرسة كما هائلا من التعليمات التي يتوجب عليه أن ينفذها وهو لا يعلم حتى لماذا يريدون منه أن يخضع لها وهو لا يحب ذلك. يواجه التلميذ سلطة المعلم ووصايته وهو غير قادر على صد قوته. يتساءل الطفل لماذا عليه أن يستشير كي يخرج أو يدخل أو حتى يشرب أو يتكلم. كل شيء يخضع لقواعد وقوانين وقد ينجر عن مخالفة تلك القواعد عواقب لم يتوقعها ولم يتعاقد فيها مع أحد. غير أنه لا يجب النظر إلى هذه الإجراءات التنظيمية التي يقوم المعلم عادة على ضمان تنفيذها، كحالة ضغط دائمة يخضع لها الطفل داخل الفضاء المدرسي. كما أنه لا يجب اعتبار تفوق المدرس بحكم سلطته البيداغوجية امتيازا يتمتع به هذا الأخير على حساب التلميذ. ثم إن الدارس لمبررات تلك القواعد لا يتوقف عندها كوسائل حرمان وقهر بل إنها تبدو ضرورية ومقبولة من قبل الكبار إلى الحد الذي قد يصل إلى مطالبتهم بالصرامة والحزم فيها. ذلك أن هذا النظام يعتبر من قبل الكبار فرصة لضبط السلوك وتهذيبه. كما أن تفاوت المكانات والأدوار بين المعلم والمتعلم يبدو ضروريا من أجل وظيفة القيادة. ثم إن الأطفال في هذه السن، يطمئنون إلى النماذج السلطوية التي تتماهى مع السلطة الوالدية ويتقبلونها تدريجيا ويلتزمون طواعية بتعليماتها بمفعول ما تؤكده التجربة من جلب لرضى المدرس والوالدين على حد سواء. عموما يتم بناء تعاقد صريح أو ضمني بين المعلم والمتعلم في المستوى البيداغوجي والمستوى التعليمي التعلّمي. من ناحية أخرى يبدو أن مسألة التوجيه من قبل المعلم ومحدودية هامش الاختيار من قبل المتعلم تتجاوز البعد السلوكي لتشمل المعارف والأخلاق والقيم والمواقف واتخاذ القرارات الشخصية. فالطفل يدرس برنامجا رسميا لم يشارك في صياغته لاعتبارات موضوعية. فهو يدرس معارف ويتلقى تدريبات على كفايات ومهارات حددها النظام التربوي ويتخذ فيه المعلم مكانة المنفذ المتخصص وفق قواعد مضبوطة. على هذا الأساس يتم توجيه المتعلم لاتخاذ مواقف وأنماط حلول للمشكلات صممها له آخرون ضمن إطار مؤسسي وقرروا أن ذلك هو ما يصلح له حاضرا ومستقبلا. من الواضح أن تمرير هذه الأنماط السلوكية والثقافية ومنظومة القيم التي اختارها المجتمع لنفسه، تحتاج لسلطة تسهر على ضبطها وتنظيمها لتكوين المواطن الصالح المستقل والحر. ضمن هذه المفارقة التي تلتقي فيها السلطة بالحرية ويلتقي فيها التوجيه بالتربية على الاستقلالية، يمكن فهم الخيط الناظم بينها ليحصل التكامل بدل التصادم ولينتج الشخصية المتوازنة بدل الشخصية المضطربة والعاجزة على الاندماج في بيئتها. الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، ترتكز مقومات بيئته على شروط العيش المشترك. إن حسن اشتغال نظام العلاقات الاجتماعية يقوم على المسؤولية والواجب. لا يمكن الفصل بين عنصري الحق المطلوب والواجب المسلط من خارج الذات لتربيتها على الحرية. فمن يتطلع للحرية عليه أن يخضع لنظام الواجبات التي بدونها يفقد حريته وتطاله القيود المعنوية والمادية. كذلك، لا يمكن أن تكون المدرسة معزولة عن الواقع المحتمل لكهل المستقبل والمؤسسة التربوية هي المؤتمنة بالأساس، على نحت ملامح مواطن الغد. مواطن حر ومستقل ومسؤول، يحترم قواعد العيش المشترك. على هذا الأساس يبدو أن المدرسة بما تتخذه من آليات الضبط والتحكم والسلطة والتوجيه مدعوة أكثر من أي مؤسسة أخرى إلى تنشئة الأطفال مبكرا على فهم واقعهم وتنمية مواهبهم ومهاراتهم والاستعداد للمساهمة في تعزيز أسباب النجاح الفردي والمشترك وفق ما تعاقد عليه المجتمع من قواعد تقوم على نكران الذات والتحكم في النزوات والرغبات الشخصية. ولكن سلطة المعلم لا تلغي فرص الاختيار الحر وتوفر مساحات كافية للتعبير والإنتاج وإبداء الرأي ومناقشة أفكار الآخرين وإثبات الذات وتحقيق التميز والترقي في سلم النجاح الشخصي. إن الآليات البيداغوجية تفرض بالضرورة استراتيجيات تعلم مجربة وناجعة تحقق التنمية الشاملة لشخصية الطفل في مستوياتها المعرفية والوجدانية والحسية الحركية. ولعلنا نختم هذا العنصر ببعض أفكار روسو حيث يسلم بـ: "أن تصبح إنسانا هو المرور من حرية طبيعية حيث كل شيء مسموح به إلى حرية مدنية اجتماعية مواطنية حيث تُحدّد الحرية باعتبار القانون. إنه في احترام القوانين يتحدّد الإنساني". ويضيف: "أن تكون إنسانا هو الخضوع للقوانين وليس للناس. " يبدو مما سبق، أن الطريق إلى الحرية يمر حتما بالخضوع لسلطة ما، كما أن المشروع التربوي يعتمد التوجيه المعدّل، وسيلة لتحقيق الاستقلالية. فإذا كانت التنشئة الأسرية تميل إلى الحرية والتسامح فإنها تفرض في ذات الوقت مجموعة من القواعد الضرورية للتنشئة السليمة. لا أحد ينكر غاية أي تربية في أن يصبح الطفل في فترة لاحقة شخصا مستقلا يكفي ذاته بذاته. لذلك فالمجتمع يراهن على دور المدرسة لتقوم بالدور الذي تعجز الأسرة على القيام به بحكم نظامها ووظيفتها كما أنها مؤهلة لسد الثغرات المحتملة بحكم الظروف التي نشأ فيها الطفل قبل ولوجه للمدرسة. تبقى المدرسة إذا الإطار الأمثل الذي يؤمّن مرور الأطفال إلى مرحلة المراهقة دون أخطار تذكر، رغم أنها يمكن أن تكون مجالا يتأرجح فيه الطفل بين توقه للحرية المطلقة من ناحية وضرورة خضوعه كرها لسلطة المؤسسة من ناحية ثانية. ولكن يجدر ألا تكون السلطة وسيلة لتأكيد القوة بما يهدد التنشئة المتوازنة بل إن ما يحتاجه المشروع التربوي هو تلك السلطة التي تحرر وذلك التوجيه الذي يحقق الاستقلالية والترشد الذاتي. فهل يا ترى يمكن للمدرسة أن تحافظ على مقومات سلطتها المحررة في ظل المنافسة التي يفرضها العصر الرقمي وتعدد موارد المعلومات وتعدد أشكال التواصل مع تطور التكنولوجيات التربوية الحديثة؟
الكاتب:
إدارة النشر والتحرير بتاريخ: السبت 09-10-2021 09:45 مساء الزوار: 906
التعليقات: 0
|
|