رواية " ذات موعد" للكاتبة نجلاء سلطان العبدولي حكاية عشق مدينة لا تدقّ فيها عقارب السّاعة
رواية " ذات موعد" للكاتبة نجلاء سلطان العبدولي حكاية عشق مدينة لا تدقّ فيها عقارب السّاعة إلاّ بنبضات المحبّين.. قراءة : ريم العيساوي
إنّ مصطلح “المكان” مهمّ في التّعامل مع النّصوص السّردية، ومن أدقّ ما عرفه النقد الأدبي الحديث من المفاهيم . و هو مكوّن الفضاء الذي يحوي الوجود كلّه، إذ وجود الإنسان في الفضاء المكانيّ و الزّمانيّ هو بدء الحياة العقليّة، وبدء تشكّل ذاكرته وتاريخه، وهما ليسا الوجود فحسب بل يحملان دلالات تكشف صورة الواقع وفلسفة المبدع ورؤيته للكون. أمّا الرواية فهي نصّ مكانيّ بامتياز، إذ حيثما نولّي نظرنا في الفنّ الروائيّ يطالعنا أثر المكان حتّى لا نكاد نقتنع بأنّه لا سبيل إلى الاستغناء عن دراسته ، إن شئنا الإحاطة بالرواية إحاطة جيّدة .والمكان يتشكّل في نسيجها وينتظم مع عناصرها الّتي لا تتحرّك إلاّ في فضائه .وهو مدخل استراتيجيّ لقراءة النصوص و الوقوف عند دلالاتها العميقة في مستوى الانزياحات الّتي تقود إلى الكشف عن شعريّتها . وقد تأكّدت أهميّة المكان في الدّراسات الحديثة المتعلّقة بالسّرديات لتزايد الوعي بقيمته باعتباره عنصرا فاعلا في الأحداث وليس مجرّد إطار ، فهو يحيط بنا بوجوده ونحيط به بوعينا ،فحياتنا مرتبطة بأمكنة مختلفة وهي أساسا أمكنة مرجعية تاريخية ولكنّها بعد تجاوز تاريخيّتها تصبح أمكنة نفسيّة وشعريّة لها جمالياتها ورموزها ودلالاتها يصنعها المبدع ويصوغها بخياله من معين اللّغة . عالم يخلقه الإنسان للإنسان . و بقدر ما تكشف الرواية عن جوهرها بقدر ما تكشف عن عنصري المكان والزمان، فهي تبني معمارها عليهما، وتستمدّ منهما معانيها ودلالاتها، وبين الفضاء والإنسان جدلية قويّة عبر ملايين الأجيال، والحياة بكلّ عناصرها ومكوّناتها هي الأمكنة والأزمنة، والإنسان هو أساس الحركة في إطار هذين العنصرين. والفعل الروائي فعل (زمكاني)،و يحتفي صاحبه بإعادة إنتاج الأحداث من قبل راو لا يمكنه فصلها عن هذين المعطيين المؤسّسين للفضاء الروائي. ولذلك فإنّ المكان الروائي لما له من دور بارز في تقنيّة الرواية صار موضوعا للبحث والدّراسة والتنظير ." وهو العمود الفقريّ الذي يربط أجزاء الرواية ببعضها البعض وهو الذي يسم الأشخاص والأحداث ، والمكان يلد السّرد قبل أن تلده الأحداث الروائية ، بشكل أعمق وأبعد أثرا " _1 عبد العزيز شبيل - الفنّ الروائي عند غادة السّمان - دار المعارف للطباعة ط1 - 1978 م -ص 47 . و رواية " ذات موعد" للكاتبة نجلاء العبدولي رواية عاشقة لعنصر المكان . ومضمونها يحيلنا على المقهى بمدينة الشّارقة التي تختصّ بالشّاي الممزوج بالحليب والزنجبيل وإذا اعتبرنا العنوان مدخلا ونصّا صغيرا ينهض بوظائف جماليّة ودلاليّة ورغم صغر حجمه فهو نصّ مواز يحدّد مسار القراءة التٌي يمكن لها أن تبدأ من الرؤية الأولى للرواية انطلاقًا منه فالعنوان يعكس حمولة مكثّفة للمضمون الأساسيّ للنّص ألا وهو التعلّق بالمكان . كما يضطلع العنوان بسلطة محفّزة على القراءة وبؤرة غواية للمتقبّل،والأهميّة الّتي يحظى بها متأتيّة من اعتباره مفتاحا في التّعامل مع النّص في بعديه الدّلالي و الرمزي .ولأهمية العنوان بوصفه علامة بارزة في تحديد النّص والكشف عن مجموعة من الدّلالات المركزية . . " ذات موعد " كلمة معبرّة عن الشّمول والعموم جاءت حاملة لخصوصية الزّمان والمكان معا . عراقة المقهى في المنطقة، والّذي امتدّ على ربع قرن، وتحديداً منذ 1985م، ومن هنا فقد ارتبطت هذه الكلمة ارتباطًا عضويًا بالنّص الّذي يخيط نسيجه، ممّا يشدّ انتباه المتلقّي ويفتح أمامه دهشة الاكتشاف . و تمثّل مقهى رجب صرّة المدينة وهو فضاء يتحصّل منه المرء شراب الكرك اللّذيذ، فضاء مفضّل وأثير وثريّ بالإيحاءات و الدّلالات ، يكفي ممارسة الفرد فيه تلك اللّحظات الصّافية في ترشّف الكرك وفيه حظّ الفوز به في خضمّ الازدحام لشيء مرغوب :" كافتيريا رجب المشهور بتقديمه كوب الشّاي بالحليب على الطريقة الهنديّة والمسمّى محلياً بـ"الكرك"، حيث يلزمك الكثير من الحظّ حتّى تحصل على كوب منه، بسبب الازدحام " ص 11 و تنفتح الرواية بمدخل بمثابة الإعلان عن المضمون يعكس ثنائيّة الإنسان والمكان إذ تقول الكاتبة :" على خريطة العالم يوجد قانون آخر.. يسود عوالمنا الداخليّة.. لا يعترف بالحدود السّياسيّة ولا بالمدن الرسميّة.. ولا بالمسمّيات الموضوعة على لوحات الشّوارع.. هناك مدن تعبث بالذّكريات.. تحمل أنفاسنا وأنفاس من نحبّ.. تحمل دفء مشاعرنا.. حرارة أشواقنا.. مدن لا تدقّ فيها العقارب إلاّ بنبضات المحبّين.. روائح الذّكرى تنتشر فيها حدّ الهيام.. هناك مدن تسكنك قبل أن تسكنها... مدن الفرح والألم.. وحدها هذه المدن تسمعك أنين العشّاق على شطآنها.. تدثّرك بقوانين الذّكرى.. تتأبّطك جمرة غيابهم.. تتلو عليك تراتيل الهوى .. تقدّم لك قلوبهم وقفاً للحبّ .." ص6 منذ السّطور الأولى تربط الكاتبة عاطفة الحبّ بالمكان .. فتصبح عاشقين للمدينة الّتي نسكنها.. للحيّ الّذي ننتمي إليه..وتتحوّل عاطفة الحبّ إلى قانون يسيّر الذات في المكان، وبطاقة الانتماء لا نكسبها إلا بذلك القانون :" إنّنا مواطنون بحكم قانون الحبّ لإحدى المدن الّتي تكنس قبح الزّمن وتزخرف قصصنا!" ص7 إنّ المكان في رواية " ذات موعد " له حرمته وقدسيّته فلولاه ما كان لعاطفة الحبّ النبيلة أن تحمي أسرارها وتحصّن آهاتها .. "وتبقى همسات المحبّين في حميميّة بعيدة عن أعين الفضوليين.. " ص7 إنّ المكان فضاء محايد ومهما تنوّعت أسباب المواجهة بين النّاس وبلغت مرحلة الانتقام والتشفّي فالمكان حضن حنون يفتح ذراعيه للقاء المحبّين:" المدينة تنصاع للقائهما." والمكان لا يفنى ، بل تخلّده الذكريات لأنّه وحده الشّاهد الأمين على عاطفة الإنسان وكلّ جزء من المكان يحمل قصّة من قصص المحبّين :" وحده هذا الجدار كحضن أمٍّ، يعود إليه شهاب ليتذكّر ذاته، ذكرى برائحة العنفوان" ص 11 وبين المكان والإنسان جدلية دائمة تسكن أعماقه وتلك الجدلية هي جوهر السّؤال هل للمكان قدرة على توثيق نبضات قلوبنا ولحظات انصهارنا في حركة الكون وتاريخ الوجود :" هل ما زال هذا السّور تدغدغه الضحكات الهستيرية؟ هل ما زال يحتفظ بشهامته وإخفائه للهاربين؟ هل ما زال يحتفظ بهمسات المغامرين؟.." ص 11 ويتعلّق الإنسان بالمكان لعراقته و حفاظه لذكريات الأجداد . و فعل الزّمن يزيد المكان سحرا ويغذّي شعور الالتحام ، فمدينة الذّيد يعشقها شهاب الشّخصية الرئيسة في الرواية لأنّها تشعّ الدفء والحميمية ما يغذّي روح الإنسان ولأنّها مكان حافظ على طابعه الأصيل ولم تشوّهه المدنيّة الحديثة :" هذه المدينة التّراثيّة العمبقة شكلاً ومضموناً، فهناك ما زالت الأسر تتمسّك بالعادات والتقاليد الّتي اضمحلت في الحياة المدنيّة في أغلب مناطق الشّارقة المتمدّنة،حيث ما زال النّاس يعيشون متلاحمين،و حيث تكثر زياراتهم الّتي تتّسم دائماً بالبُعد عن أعراف الإتيكيت الاجتماعيّ، وطرق الأبواب والاستئذان وأخذ المواعيد للزّيارات تكاد تختفي فيما بينهم، كما أنّهم يتشاركون الصحن الواحد في وجباتهم العائلية وتكثر الأيادي حوله وتكتظّ الأكتاف فتشعر بحميمية الروابط هنا، سواء شعرت بالحزن أو بالفرح تجد من يشاطرك لقمتك من خلال ذبذبات جسده والتصاق النّظرات المتقاربة." ص 16 في هذه المدينة العتيقة يغنم الإنسان بالدفء ويحقّق حاجته من الغذاء الروحي ويحظى بالحميمية والألفة والقرب ، قيم تنبع منها سعادة الإنسان فيعشق المكان و ساكني المكان . وتحتفي الكاتبة بمدينة الشّارقة الفضاء الرئيس في الرواية و تدقّق تفاصيلها الجغرافية ومؤسّساتها وعمارتها وأنشطتها متغنيّة بعناصر الجمال فيها بما يؤكّد انصهار الإنسان في المكان كاشفة تلك القيمة النبيلة ألا وهي حبّ الوطن. كما تؤطّر أحداث الرواية عبر وسيط الاستعادة التخيييليّة في مدن أخرى ولعلّ هذا الاختيار نابع من المقصديّة الّتي توجّه فعل السّرد المتجاوز لثنائيّة المركز والمحيط :"في منطقة المريّجة بالشّارقة، تعجّ المباني التراثيّة القديمة، حيث يتوسّط الدوّار متحف قديم، وعلى يساره يعجّ المارّة والمتسوّقون في السّوق القديم، الّذي تشتهر به الشّارقة، في بيع القطع القماشيّة المطرّزة، والأواني القديمة للمطابخ، هناك تعشق العجائز التبضّع خصوصاً في وقت الضّحى، حيث يكون الأطفال في المدارس، ويخلو السّوق من المراهقين الّذين غالباً ما يشعلون فتيل الغضب عندهنّ في كلّ شيء، أمّا في الجانب الأيمن من المنطقة فتقع في المقدّمة فروع للبنوك، ثم منطقة التّراث الّتي تقام بها فعاليات أيّام الشّارقة التّراثية، والّتي تعيش خلالها الشّارقة عرساً جماعياً للفلكلور بأشكاله العديدة، حيث تطرب الأذن للأهازيج والرقص الجماعيّ والأكلات الشّعبيّة، فضلاً عن أكشاك البيع بالتّجزئة لكلّ البضائع والمقتنيات القديمة، وبجانبه يقع معهد الشّارقة للفنون المسرحيّة، وهو المكان الّذي يحتضن المسرحيات والعروض والندوات الثقافيّة، فالشارقة تحظى بمكانة ثقافيّة عريقة، ويفوح عبق الثقافة في كلّ أرجائها." ص 33 إنّ مدينة الشّارقة ليست ملامح جغرافية فحسب وحدود ملموسة بل هي لوحة فنيّة غنيّة بالمعاني والدّلالات ، فيها من الحياة والألوان و من الحركة والأصوات ومن عناصر العراقة والتّاريخ الكثير وتتجلّى فضاء مفتوحا على نشاطات متنوّعة تجارية وفنيّة وفولكلوريّة ..مدينة تشدّ ساكنيها بما تحمله من عناصر الجمال ،فضاء متدفّقا جمالا مغذيّا للخيال والوجدان وباعثا البهجة والسّعادة . مكان حافل بالفرح بما تدور فيه من إيقاعات وأنغام . لقد جسّدت هذه اللّوحة احتضان المكان للإنسان . واحتضان الإنسان للمكان . ومن القيم المعزّزة لعشق الإنسان للمكان والمغذيّة للروح الوطنيّة الصّادقة ، ارتباط المواطنين بقادتهم ، لأنّ المكان يكتسب خصاله من حكمة سياسة قادته ، وما الأمان سوى بذرة التعلّق بالمكان :" ففي بلده الّذي ينتمي إليه.. يعشق المواطنون قادتهم..ويمجّدون من يحكمهم.. ويتغنّون ببيتهم المتوّحد.. ووطنهم المتلاحم.. في الوقت الّذي تحترق الشّعوب من أجل إسقاط أنظمة الحكم فيها.." ص 36 ولتأكيد العلاقة بين المغترب والوطن تستند الكاتبة على قيمتي الحنين والذكرى وكم حمل لنا الأدب العربيّ تصانيف في الحنين للأوطان والبكاء على فراقها ، إنّ الوطن هو المكان الأثير من خلال الرواية ومهما رحل عنه الإنسان فهو راسخ في الذّاكرة وخالد في الوجدان بما تدّخره من تفاصيل :"ففي الغربة يبقى الإنسان يحنّ لوطنه.. ويبحث عن أيّ شيء يذكّره به." ص 46 لقد ظهرت أهمية المكان في رواية " ذات موعد " بوقوف الكاتبة على تفاصيله الدّقيقة وتوثيقها لعناصره الأصيلة،و تجسيدها لملامح براءته مؤكّدة أنّ هناك ارتباطا نفسيّا بين الإنسان و المكان فهو المغذّي للإحساس بالمواطنة وبالاعتزاز بشخصيّتنا وهويّتنا. إنّ تعلّق الإنسان بالمكان ما هو إلاّ تأكيد لذاته وتأصيل لهويّته و بقدر إحساسه بالمكان تكمن أهميّة وجوده . ولا تكتسب الذّات أهميّتها إلاّ من خلال تفاعلها مع المكان الموجودة فيه . إزاء هذا العنصر الرافد لإنشائية النّص ،فالرواية تتحلّى بلغة أنيقة وموحية وسرد يتشعّب وينمو في تناسق مع المقصدية المضمونية ألا وهي نبل العاطفة وشفافيتها وحاجة الإنسان للتطهّر ممّا يشوبها . ولعلّ ما يميّزها قدرة الكاتبة على طرح الأسئلة الأساسية والجريئة والحفر في الطبقات العميقة للمجتمع الإماراتي أو ما يمكن وصفه بمناطق الظلّ والعتمة. وإجمالا، فإنّ الرواية تحتفظ بأواصر قربى بالذّات، دون الانغلاق في الذاتية الضيقة فهي تحلّق برحابة ضرورية من خلال وصلها بأسئلة وتحوّلات المجتمع عامة . إنّ رواية " ذات موعد" حكاية عشق مدينة لا تدقّ فيها العقارب إلاّ بنبضات المحبّين . المراجع : _1 عبد العزيز شبيل - الفنّ الروائي عند غادة السّمان - دار المعارف للطباعة ط1 - 1978 م -ص 47 .
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الأربعاء 20-07-2022 06:43 مساء الزوار: 227 التعليقات: 0